تجربة سلام جبار.. الحضارة الجمالية وثقافة النص البصري
رياض ابراهيم الدليمي
(السلطة المطلقة التي لا حدود لها نوع من المتعة، ولو كانت سلطة على ذبابة ) .. ديسوفيسكي
النص المثقف المختلف ان كان مرئيا أو مقروءا هو ليس ذلك النص الذي يرشد الآخرين ويرسم المسارات لهم ، بل هو النص الذي يحاول تفكيك السلطة الاجتماعية والتاريخية والمعرفية لصالح الوعي الذوقي والجمالي والحافز العقلي على حساب الحافز الميتافيزيقي ورفع القداسة عنه ، فالمقدس عبر التاريخ ومنذ العصر البدئي ومازال يشكل عبئا ثقيلا وكابحا للفكر الحرّ المجرد من الآيدلوجيا العقائدية والميثلوجيات ، فالمقدس يسخر الانسان لصالحه لكونه محتكرا للسلطة والمال والنفوذ .وفي هذا السياق الجدلي ما بين علاقة الفرد بالرمز يشير نيتشه بمقولاته ((فهل نحن في خطر لأن نتحول لمجتمعٍ يعاني من دون وجود المعنى؟ هل نحن كمجتمع في مهب خطر العدمية؟ هل نحن أكثر عرضة الآن للأيديولوجيات والمخادعين الذين يعدوننا بلعب دور الإله لنا وللمجتمع؟ هل نحن كأفراد على استعداد لمهمة خلق قيمنا الخاصة ؟ هل نحن على استعداد لخلق المعنى في الحياة بأنفسنا، بدون مساعدة من الإله والعقيدة ؟ )) .
السؤال الأهم هل سيولد اله جديدا ينقذنا من هذا الاحباط والتشرذم الذي يعيشه البشر في ظل التقنات والصراع من أجل النفوذ والزعامة؟
ربما نجد الفيلسوف الوجودي بول سارتر قد لا يبتعد عن اجابات نيتشه كثيرا بقوله : (( ان الحياة تبدأ على الجانب الآخر من اليأس )).
وسيلة امتاع
لم يكن الفن بريئا بوصفه وسيلة جمالية ذوقية معرفية ووسيلة امتاع بل وُلد الفن محتكرا من قبل سلطة ( الاِله ) القائد ومفتخرا فيه ويشكل رمزا لقوته وسيرته وسفرا مدونا لأمجاده وبطولاته ونسله وسلالته وما صنعه من منجزات عن طريق تدوينها من خلال الفنون ، ويعد الفن أفضل وسيلة لخلود أعماله وتأريخه .
من خلال هذه العتمة الوجودية والمحنة الانسانية يحاول الفنان سلام جبار أن ينزع سلطة العرش والفرادة من المحتكر لها ويعرّيها بنصوصه المرئية وبنقده اللاذع الكاشف لها من خلال الصورة ، فيجتهد ليشكل نصاً مغايراً ومحاولاً منح السلطة على سطوح وفضاءات النص مجازيا الى الشعب المقهور دون أن يبيح بذلك علنا ، لكن تشي أدواته الفنية والفكرية والجمالية أن تسلط الضوء على الأحداث التي تجري أو التي جرت منذ العهود الغابرة والتي سلبت جميعها آدمية الانسان وحريته وحياته وحولته الى آلة عمل وحطب لحروب عبثية وسلخت منه القدرة على الاحتجاج والرفض ووأدت عقله وروحه وأحلامه لتحيّله أداة ميكانيكية ومكننة انتاج وخدمة .
تشكل تجربة الفنان سلام بقيمتها الفنية والفكرية منظومة ابداعية اذا يحاول ان يتخذ من النهج النقدي خطابا تشكيليا ثقافيا حيث تجد نصوصه هي الاقرب الى النظرية او الفلسفة الواقعية النقدية التي تشخص وتعري الظاهرة والحدث اليومي بشقه السياسي وتنتقده وتسلط الضوء عليه وتكشفه بكل تفاصيله .
يسعى الفنان سلام جبار بفكره الثاقب المخلّق الباحث والصانع لنسق حياتي حضاري متجدد ومبتكر هو أساس الخطاب الجمالي الذي يتبناه ، فالتقنيات الفنية المحافظة الأصولية الكلاسيكية وقدرة الفنان أن يضفي عليها سمة معاصرة تعبر عن قدرة الفنان وريادته للخروج عن السائد التقليدي لكونه قد حقق المغزى الجمالي من ناحية براعة التصوير وعناصره وتوازناته ومد الجسور ما بين الشكل المحافظ وما بين حداثة التقنيات والإفادة من كل التكنولوجيات بهذا الصدد وما وصلت إليه وتوظيفها وتطويعها من أجل إنتاج نص مغاير فيه روح العصر ويتناغم وينسجم مع ذائقة وثقافة العصر ان جاز التعبير ، والجمالية لديه وكما عند عدد من الفنانين تكمن بالفلسفة والمفردة والصورة والموقف وليست بالضرورة أن تكون الجماليات في التكوين واللون والمنظور أو تقنية الضوء والظل.
ويكتسب الفنان منظومته القيمية وفق تعليمه وخبرته ومفاهيمه ورؤيته وفلسفته وايضا ممارسته، لذا عندما نحاول ان نقيم عملا فنيا ما لابد ان تكون هناك مجموعة قيمة قد توافرت بالعمل الفني لكي يميزه عن الاخر ، فمن خلال متابعتنا ودراستنا لمسيرة الفنان جبار والتراكم من التجربة والمنجز وثقافته العميقة وتنظيره ساهمت كل تلك بان تمنحه الميزة وتضع له عنوانا واسما في المشهد التشكيلي بشكل لافت يستحوذ على اهتمام جميع المتذوقين اولا ومن ثم النخب .
سلام جبار فنان حذر وواعٍ لبصرياته في تجسيد النص ، فهو يحافظ على حساسية عين المشاهد ويكرس جلَّ اهتمامه كي لا يخدشها أو ينفرها من النص من ناحية التكوين واللون والإضاءة والثيمة ، فهو يرسم السيناريو البصري قبل أن ينفذه فيدرسه بعناية شديدة فكل شئ محسوب لدية فلم يعطِ للفطرة والعفوية الا هامشاً ومساحةً ضيقةَ وذلك عندما يبلغ ذرة ونشوة الهيام في لحظة ما عندما يكون غائبا ومنغمسا في حالة اللاوعي وحالة الشرود والتمكن من القبض على لحظة اللذّة الابداعية التي يسمو اليها .
الصورة البصرية لديه هي سردية واقعية معاشّة بكل تفاصيلها سواء كانت سردية شخصية أو مجتمعية أو سردية وطن هذا الوطن الذي نهب وأنتهك وجعلوا منه تراجيديا خراب ودمار على أيدي قوى داخلية وخارجية ، فجاءت نصوصه وأعماله لتحاكي هذه السرديات وتكون عين الفنان وذاكرته كاميرا توثيق وتسجيل وشاهدة على العصر وعلى أحزان ومصائب العراق وضياع كنوزه وتشويه تاريخه في لحظة زمنية فارقة بالتاريخ الحديث ، هذا التاريخ الذي يسمى عصر العولمة الذي أحال عصر التنوير الحضاري الذي تركه أبناء وادي الرافدين للبشرية إلى عصر (علي بابا وكهرمانه وأربعين حرامي ) وبمشهد خيالي وسريالي وبغفلة من الزمن.
ولكن لم يكتفِ ولم يرض الفنان هنا أن يكون شاهدا بل هو واعٍ لدوره الحضاري الرافض والمحتج والمقاوم بصفته الانسانية والثقافية ومن خلال أدواته الجمالية والفكرية والاعلامية ليترك بصمته الثورية كتاريخ شخصي له وللآخر بوصفه مثقفا ومنتمٍ وطني وكما يقول ميشيل فوكو ((حيثما توجدُ السُّلطةُ توجدُ المقاومةُ، والسُّلطة ليست وسيلةً للقمعِ والحظرِ والمنع بل وسيلةً للإنتاجِ، إنتاجِ العقولِ والأفكارِ والتَّوجُّهاتِ والسِّياسات )).
لقد تنقل سلام جبار منذ بداياته الفنية بين المدارس الفنية وجرب مختلف الاساليب الفنية من واقعية وبوترية و تعبيرية وتجريدية وسريالية وانطباعية ، فلوحته تحافظ على التوازن بين الشكل والمضمون كأسلوب أكاديمي .
ان التضادات اللونية في أعمال سلام جبار تخلق فعلا وعاطفة وموسيقا وحالة استفزاز للشعور والتشويق ، وأن المفارقة بين توظيف حدة اللوّن وتدرجاته وبين الاشعاع اللوني يخلق حالة ومشهدا دراميا وفعلا داخل مسرح الحدث وهو السطح التصويري '
فلم تكن خلفية السطح في نصوصه تمثل خلفية لونية فحسب بل تمثل جوهر النص وثيمته وعمقه ولا يمكن فصلها عن الحدث بل هي جزء منه أو امتدادا له ، ناهيك عن العناية الفائقة التي يعتمدها بخلفية اللوحة فتشكل مع شخوص ومجسمات النص - التي برزها في واجهة السطح - نصا متكاملا مع الغاية الرئيسة للموضوع والحكاية فتعطي للمشاهد فهما للمكان والزمان ، وغالبا ما تكون الخلفية تميل للون الغامق المتدرج لكي تكون جزاء متصلا بالزمن الحدثي (الألوان بالنسبة الى فان كوخ ليست مجرد مكونات منفصلة؛ بل هي تفاعلات مستمرة تولد الحياة والجمال ) .
لذا أن الرائي لأعمال ونصوص سلام سيجد النص ينشأ ويبنى كمشهد مسرحي محسوب تقنيا كمؤثر جمالي لا زوائد ولا فائض فيه، لا كما يفعل باقي الفنانين اذ يملؤون السطح والفضاء بحشو لوني وشكلي ليؤدي وظيفة جمالية واشغالا للفراغ .
الإكسسوارت التي يعتمدها في مختلف نصوصه تؤدي غايات غرضية رغم هويتها الرمزية وغالبا ما يستخدمها كأدوات تورية ((التورية في المصطلح فهو أن يقول كلاماً يظهر منه معنى يفهمه السامع و لكن يريد منه القائل معنىً آخر)) .
اغراق المفاهيم
لوحة سلام جبار تقنية لونية شكلية تأخذ من العلم والفلسفة ولكن لا تقع بالمحذور أي الاغراق بالمفاهيم والشطح واللامعقول رغم العبث والتمرد الشكلي واللوني وكسر حواجز الاتزان أحيانا ، وهذه التراكيب التي يجسدها بشكل غرائبي فنتازي خيالي وسحري في بعض الأحيان لتعطي دلالات سيمائية واشارات أبستمولوجية قصدية معنوية في القسم منها أو أخرى معرفية لتخدم السياق والهدف الذي تسمو اليه اللوحة .
لوحة جبار مفعمة بالحركة التعبيرية للجسد والفضاء والألوان وتقنية الضوء والعتمة وبريق اللون وسطوعه وخفوته ، أي تتناسب كل هذه العناصر مع شدة الفعل وجسامة الحدث لإيجاد هرمونية ايقاعية داخل الفضاء المفتوح لتعطي دلالات أوسع وأشمل على حجم المأساة والمحنة والانحطاط الحضاري وتفكيك البنى الاجتماعية التي حصلت وفق عهود وحقب من تاريخ العراق . شخوص لوحاته في حركة صاخبة على المسرح رغم تصويرهم أحيانا على شكل موتى أو أسرى أو جماجم أو كائنات طافية على البحر ، فلم نألف في لوحاته سكونا للريح بل قسوة للشمس وزمهرير الشتاء وعصف وغبار كل تلك الشارات هي بمثابة تصوير واقعي ويومي لأجواء وهول المحن التي يعاني منها المجتمع التي أودت به من خلال هذه الصراعات والمقامرات السياسية حيث جسدها جبار في نصوصه كأنها موكب مآتم والتي كانت ومازالت على مرّ التاريخ ، ويصبح الانسان العراقي مشروع موت مجردا من أناه ووجوده وحقه في الحياة وكما يقول ديستوفيسكي (( إن الإنسان لا يتغير إلا حين يسلب منه شيء (عزيز)، لا يتعلم إلا حين ينكسر، وحين يدرك أن الإدراك نفسه لعنة لا رجعة منها. لا أحد يصل إلى الحكمة دون أن يتفكك، دون أن يشعر أن عقله قد أعيد تشكيله بالألم والتجربة والخسارات التي لا تعوض. كل فلسفة جديدة هي قبر يحفر في ذاتك القديمة، وكل وعي جديد هو جرح يضاف إلى لائحة الجروح التي صنعتك )).
ان التدني والسقوط الحضاري يبدأ من سلخ الانسان من آدميته وكيانه لذا تجد رسومات جبار قد تتماه مع نصوص الرسام الفرنسي الساخر التهكمي أونوريه فيكتورين دومييه 1808 – 1879 م الذي عبر وضحى من خلال حياته وفنه الذي صور أوجاع شعبه وسخر من الملك وهو يمتص خيرات شعبه ، وقد لا يذهب بعيدا سلام جبار برسومه عن تجربة الفنان الاسباني فرانشيسكو غويا 1746 - م1828 حيث كان ساخطا وبحزن شديد على ما مرت به بلاده من حروب وحصار ودمار ، وقد لا تختلف تجربة جبار عنه عند الكلام عن سيرة ومنجز جبار ، حيث تظهر وبشكل جلّي في أغلب أعماله حجم المأساة والحزن على شخوصه وجسومه وألوانه لما مرّ ويمرّ به الانسان العراقي المكبل بالحروب والموت والاقصاء والذي تم عزله عن الفعل الحضاري والوجودي وكان نتيجة ذلك كله هو فخ السقوط والانحدار الحضاري الذي يشهده البلد ، وكما جاء في مقدمة ابن خلدون عن سقوط الحضارة مشيرا (( انّ الأمة “إذا تغلبت وملكت ما بأيدي أهل الملك قبلها كثر رياشها ونعمتها فتكثر عوائدهم ويتجاوزون ضرورات العيش وخشونته إلي نوافله ورقيته وزينته ويذهبون إلي اتباع من قبلهم في عوائدهم وأحوالهم وتصير لذلك النوافل عوائد ضرورية في تحصيلها ويتفاخرون في أكل الطيب ولبس الأنيق ويرى أنه إذا حصل الملك أقصروا من المتاعب التي يتكلفونها في طلبه وآثروا الراحة والسكون والدعة ورجعوا إلي تحصيل ثمرات الملك من المباني والمساكن والملابس، فيبنون القصور ويجرون المياه ويغرسون الرياض، ويؤثرون الراحة يتأذن الله بأمره وهو أحكم الحاكمين)) .