جيل اللمسة الواحدة.. هل آن الأوان لصناعة وعي جديد؟
أسامة أبو شعير
مقدمة: بين الشاشات والوعي الغائب
حين نشرت مقالي السابق “جيل اللمسة الواحدة: كيف نخاطب عقولاً تبحث عن العمق في زمن السطحية”، لم تكن ردود الأفعال مجرد تعليقات عابرة، بل رسائل حقيقية من شباب يعيشون واقع الضياع الرقمي بكل تفاصيله.
وسط هذا السيل من الآراء، تكشفت صورة أكثر دقة: لسنا أمام جيل ضائع بالكامل، بل أمام جيل عالق في مفترق طرق؛ جيل يعاني من انفجار رقمي يحاصره بالمحتوى السريع، ويعجز عن بناء عمق فكري مستقر.
هنا، تبرز التساؤلات الكبرى:
هل آن الأوان لصناعة وعي جديد لهذا الجيل؟
وهل نستطيع أن نعيد لهذا الجيل أدوات التفكير الحر قبل أن يبتلعه منطق التمرير السريع والانبهار اللحظي؟ الواقع اليوم: مشاهدات تصنع نجوماً من الوهم
لم يعد النجاح اليوم يُقاس بما تُقدمه من قيمة أو فكرة، بل بما تحققه من عدد مشاهدات ونسب تفاعل.
يكفي بث مباشر مدفوع ببعض الهدايا الرقمية، أو جدل مصطنع عبر مقاطع قصيرة، لتتحول شخصية مغمورة إلى “نجم” يلهث خلفه آلاف المتابعين.
في العراق، قصص “بثوث” تيك توك، التي شهدت تحويل مئات الملايين من الدنانير العراقية لشخصيات غير معروفة، لم تعد استثناءً، بل أصبحت نمطًا يوميًا يعكس أزمة أعمق:
انهيار معايير القيمة، وتحول النجاح إلى سلعة لحظية لا تتطلب إلا مزيدًا من الضجيج.
الإعلام… من الناقد إلى الشريك في صناعة التفاهة
لم يعد الإعلام التقليدي حارسًا على الذوق العام كما كنا نأمل.
بل أصبح كثير من القنوات والبرامج، للأسف، شريكًا في الترويج للسطحية، مساهماً في إعادة إنتاج التفاهة بأشكال جديدة مغلفة بالترفيه الرخيص.
حين تُستبدل البرامج الثقافية والحوارات الفكرية بعروض استعراضية تهدف فقط إلى رفع نسب المشاهدة، يصبح السؤال ملحًا:
مَن يحمي الوعي الجمعي من الانحدار؟
من التعليم البنكي إلى الطاعة الفكرية
كما أضاء الباحث د. منقذ داغر في تعليقه العميق، فإن الأزمة تبدأ أبعد من الشاشات، وتضرب بجذورها في أساس منظومتنا التعليمية.
التعليم الذي تحوّل إلى “نظام بنكي”، حيث يودع المعلم المعلومات في أذهان الطلبة دون حوار أو نقد، صنع أجيالاً اعتادت على التلقين بدلاً من التفكير، وعلى الطاعة بدلاً من التساؤل.
جيل نشأ في مدارس تعتبر الحفظ تفوقًا، وتعتبر النقاش تهديدًا، لا يمكن أن يتعاطى مع ثورة المعلومات إلا بوصفه متلقيًا مفعولاً به، لا فاعلًا مؤثرًا.
طاعة معرفية… وانفجار في البحث عن الاعتراف
حين تُخنق ملكة التساؤل منذ الصغر، تصبح حاجة الشباب للاعتراف والظهور حاجة ملحة.
وفي ظل غياب مساحات التعبير الجاد، يبحث بعضهم عن الاعتراف بأي وسيلة، حتى لو كانت عبر بث مباشر خالٍ من أي مضمون حقيقي.
هذه الفجوة بين الحاجة الداخلية للاعتراف، وانعدام القنوات الحقيقية للتعبير، هي التي تدفع الشباب إلى ميادين الشهرة الوهمية، وإلى تبني نماذج جاهزة من الشهرة السريعة دون إدراك لمخاطرها.
لا مواجهة بالقمع… بل ببناء البدائل
محاربة التفاهة لا تكون بإصدار العقوبات، ولا بفرض الوصاية الأخلاقية، بل ببناء بيئة معرفية صحية بديلة.
بيئة تحتضن طاقة الشباب وتوجهها نحو الإبداع الحقيقي، نحو ريادة الأعمال الفكرية، والفنون، والعلوم، والنقاش النقدي المفتوح.
ما نحتاجه هو مدارس تعلّم الأطفال كيف يسألون قبل أن يحفظوا، جامعات تدرّب الطلبة على التفكير النقدي لا على استرجاع المعلومات، وإعلام يحترم ذكاء المجتمع لا يسعى فقط لخطف انتباهه.
من جيل المشاهدات إلى جيل البناء
الجيل الذي يعيش اليوم بين الشاشات ليس جيلًا فاشلًا كما يحلو للبعض أن يصوره.
بل هو جيل ذكي، سريع التكيف، يملك من القدرات ما يؤهله لقيادة التحول، لو أحسنا استثمار طاقاته.
جيل يحتاج فقط إلى مشروع وطني يعيد الاعتبار للعلم والمعرفة والعمل، ويزرع فيه الثقة بأنه قادر على صناعة واقعه بدل الاستسلام له.
نحن بحاجة إلى حملات وطنية حقيقية تدمج بين التعليم والإعلام والثقافة لإعادة رسم خريطة القيم لدى هذا الجيل.
خاتمة: زمن البدايات الجديدة
جيل اللمسة الواحدة، الذي نشأ في عالم التمرير السريع والانتباه المتشظي، قادر — إذا وجد بيئة داعمة — أن يتحول إلى جيل البدايات الجديدة.
جيل يعيد اكتشاف القراءة النقدية، ويفتح مسارات التفكير الحر، ويعيد بناء مجتمع يقوم على العقل والمعرفة لا على الضجيج والمظاهر الفارغة.
الطريق شاق، نعم. لكنه ليس مستحيلاً. ففي كل أزمة، يكمن مشروع نهضة، وفي كل جيل تائه، تولد نخبة قادرة على صياغة الغد.
جيل اللمسة الواحدة لا يحتاج فقط إلى من ينتقده… بل إلى من يؤمن به، ويضع بين يديه أدوات بناء المستقبل.
جيل اليوم ليس جيل الضياع. إنه جيل الفرصة… لو أحسنا قراءته.
خبير اقتصادي ومستشار دولي للسياسات التعليمية و التنمية