الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
كتابة القصة بين الموعظة والاخلاق


كتابة القصة بين الموعظة والاخلاق

توفيق الحسيني

 

من الظواهر التي تستبين في كثير من قصصنا الحديثة ظاهرة الاتجاه في تطبيق عقيدة “القصاص” على نطاق واسع تلك العقيدة التي تستمد من الديانات ينبوعها العميق فهذا القصاص فيما نؤمن به مرهون بكل ما يقارف المرء من اعمال المثوبة والعقاب في هذه الحياة الدنيا كلتاهما آتية معجلة للخير جزاء الخير وللشر عاقبة الشر ومن وراء الغيب قوة قاهرة وعين ساهرة تثأر كل مظلوم منتصف من ظالمه وكل كاذب مفضوح وكل غادر دائرة به الدوائر وكل خائن ثائر عليه ضميره وكل شرير مخفق في حياته صائر الى بوار.

وثمة خصلة في قصتنا العراقية لا يعوز الناقد ان تلمحها في كثير من اعمالنا القصصية تلك هي اننا نؤثر من القصة ان تنطوي على الموعظة الحسنة والعبرة النافعة ونحن نعبر عن هذه الخصلة تعبير عن مأثوراتنا في القصص العريقة فنتساءل دائما عن “المغزى” واذكر بعض الحكايات في الكتب القديمة كانت تلحق بها هذه الكلمة فتساق وراءها الحكمة الخلقية والاجتماعية التي تستخلص من المثل المحكى ومن اليوم من ينحو في قصصه ذلك النحو الذي توارثناه عن الملك الطيب الذكر “دبليشم” وفيلسوفه “بيديا” العظيم، اذ كان الملك يقول لصاحبه الفيلسوف “اضرب لي مثل المتحابين يقطع بينهما الكذوب والمحتال، حتى يحملهما على العداوة والبغضاء او “اضرب لي مثل الذي يدع صنعه الذي يليق به ويشاكله ويطلب غيره فلا يدركه”، ونحو ذلك مع صنوف الناس فينطلق بيديا قائلا له “ من امثال ذلك كيت وكيت.. او زعموا انه حدث كذا وكذا .. وما زال فينا “بياديه” يريدون ان يجدوا ذكرى بيديا الفيلسوف ويخلفوه على عرشه القصصي الخالد ليسوقوا من قصصهم امثالا يحركون ابطالها من بني الانسان كما كان بيدي يحرك ابطاله من جنس الحيوان.

ولست اجحد ما للأمثال القصصية من قدر ولا انكر ان تكون القصة ذات مغزى مقصود ولكن يجب ان تستوفي القصة عناصرها التي ترتفع بها الى مستوى القصص الفني فلا تكون مواقفها جامدة ولا تصرفاتها متكلفة ولا مقصودها عاريا مبتذلا تضيق به النفس العزوف عن الوعظ المكشوف الطلاعة الى الجدة في العرض والطرافة في التصوير.

وثمة خدعة تدسست الى بعض جوانب ادبنا القصصي الحديث من سوء فهمنا لرسالة القصة فقد تناقل النقاد ان القصة رسالتها تهذيب الاخلاق وتربية النفوس والتبصير بالمثل العليا في الحياة فأنساق فريق من كتاب القصة وراء هذه الرسالة يحاولون ان يخرجوا قصصهم تتغنى بالفضائل وتنعى الشرور والآثام وجعلوا يخضعون لهذا الغرض سياق القصص يزفون له المشاهد ويزورون له المواقف وينتهون به الى النتائج فخرجت طائفة من أقاصصيهم تماثيل منحوتة من حجر او من مرمر او من ذهب او مما شئت من المعادن نفيسة وغير نفيسة الا انها اخر الامر تماثيل لا حركة فيها ولا حس لبابها تزوير على الحياة والاحياء وقوامها مثالية لا يعرفها الواقع ولا يشهدها الناس ولعل ارتياح كثير من جمهرة القراء لهذا الضرب من القصص المقروء او المشهود يرجع الى اننا نحن العرب نحيا في دنيانا هذه وعلى اخلاقنا وسلوكنا قناع غليظ ولسنا في هذه الخاصة بدعابتين الشعوب والاجناس فأنها شركة بين الناس اجمعين وهي اصيلة في طباع البشر ولكننا نتغالى فيها كل التغالي ونهبط بها الى درك سحيق.. فلما نقول ما نعتقد وقلما نصارح بما نجد وقلما نعبر عما تطويه السرائر كلنا متستر يداجي ويوارب ويظهر على حقيقته منا من يتخذ مسوح الاحبار والزهاد ويبدو في سمت المثاليين والابرار وربما كتم امر نفسه عن نفسه خداعا من نفسه لنفسه وفرارا بوجهه عن وجهه فنحن امام ضعفنا الانساني ضعفاء من ان نعترف به نجاهد في ان نظهر في ثوب البراءة والطهرية على رؤوسنا اكليل من بطولة الفضيلة لكي نستطيع ان نلائم ذلك المجتمع المنافق الكذوب الذي نعيش فيه.لهذا كله رمينا بالقصص يماثل حياتنا تلك حياة الكذب والنفاق فأبطال اخيار مثاليون ممدحون سعداء واخرون اشرار مذمومن ينتهون الى شقاء فالناس في ذلك القصص ليسوا من البشر ولكنهم بين ملائكة وشياطين وهم ابطال من حياتنا الواعية ومظاهرنا السافرة لا نماذج انسانية حية نحس بيننا وبين انفسنا في نجوى الضمير وخلوة الوجدان انها تخفي مثلما تخفى من الدوافع والاسباب وتبدو ما تبدو من المظاهر والصور.واذا كان لهذا القصص شأن عند من يبتغون ظاهرا من نصرة المثل العليا ويقيمون في اخيلتهم مجتمعا فاضلا من الناس قوامه عدل وحق وخير فهو عند الادباء الفنانين قصص غير فني برقة خلب وماؤها سراب.وختاما فقصاص الاثر يتقصص الخطأ على بساط الرمال وفي مسارب الطريق حتى يعرف كيف كان مصير الاقدام فإذا لم يتتبع القاص ابطاله في خطوات الحياة وفي مسارب العيش ولم برامجهم في شتى ما يمارسون من اعمال ولم يتخذ له في طريقه عدة من التحليل والقليل والمعالجة كان أهون من قصاص الاثر شأنا وكانت قصصه اخبارا بالغيب ورجما بالظن وافتتانا على الفن.


مشاهدات 38
الكاتب توفيق الحسيني
أضيف 2025/04/30 - 1:16 PM
آخر تحديث 2025/05/01 - 9:59 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 496 الشهر 496 الكلي 10994500
الوقت الآن
الخميس 2025/5/1 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير