أذن وعين
عن مرارات نيسان الموجعة
عبد اللطيف السعدون
ليس ثمة وجع في نيسان أكثر من تذكر وقائع سقوط بغداد بيد الأميركيين قبل 22 عاما، في حينها كانت بغداد تنوء تحت وقع الضربات الأميركية كل ساعات الليل والنهار، ولم يكن مشهد الجنود الأميركيين وهم يمشون في شوارعها وأزقتها بعد أيام من وصولهم الى “ساحة الفردوس” مثيرا للغرابة فحسب، انما كان مشهدا مستفزا وصادما في آن فما لم يتوقعه المواطن العادي المغلوب على أمره الذي أرهقته شعارات “المواجهة حتى النصر” أصبح ماثلا أمامه على نحو لا يقبل النفي، وقد ارتسمت أمامه صور المكابرة والتعنت، وتجاهل الأخطار المحيقة بالبلاد التي دأب رجال النظام على اطلاقها ليل نهار.
في تلك الساعات المغرقة في العتمة، الموغلة في الكآبة كنت أحاور كادرا بعثيا متقدما جاءني ببيان باسم «حزب العودة» يدعو الناس الى المقاومة، ويبشرهم بأن المسألة هي مسألة أيام، والعودة الى السلطة قريبة، لنشره في الصحيفة الدولية التي كنت أراسلها من بغداد، وقد صارحته برأيي في أن دلالة اختيار مفردة «العودة» واضحة، وان رفع شعار «العودة الى السلطة» في هذا الوقت بالذات ليس أمرا موفقا، وأن ما يجري أمام عيوننا ينبغي أن يدفعنا الى تأمل الحال للخروج برؤية نقدية صارمة توفر متطلبات الحد الأدنى للمواجهة، وابتكار سبل وصيغ غير مألوفة تعتمد على تجميع كل الوطنيين لمقاومة المحتلين الذين لن يتركوا «الغنيمة» بسهولة، وأدركت أنه يشاطرني رأيي، وان لم يفصح عن ذلك صراحة، وقد اكتفى بالصمت.
في تلك الأيام الحرجة كان الاعلان عن «حزب العودة» مجرد فكرة مهووسة لم يعتد مطلقوها النظر الى الواقع الماثل بعيون مفتوحة، وعلى أية حال فقد طويت صفحة «حزب العودة» بعد أسابيع قليلة، وبعد أن أصبحت العودة الى السلطة أمرا دونه خرط القتاد.
فخ الاحتراب
في نيسان دخل العراق التاريخ كبلد محتل للمرة الأولى منذ مئة عام ، ولم يكن مصادفة أن يسقط في فخ الاحتراب الأهلي، وأن تعصف به الحادثات المرة، وأن تحيط به المواجع بعدما عمل رجال العهد الجديد الذي جمعتهم الولايات المتحدة من الأزقة الخلفية لدول الغرب والجوار، ونصبتهم حكاما وسلاطين على بغداد على اثارة النزعات الطائفية والعرقية على نحو لم يألفه العراقيون الذين اختبروا من قبل تنوعهم الخلاق، وعرفوا كيف يسوسونه فكرا وعملا وأملا، وقد جمعتهم الهوية العراقية الواحدة، وأسسوا على وقعها استقلالهم وسيادتهم التي لم تتمكن أن تنال منها عثرات الزمان، لكنهم منذ نيسان الأسود والعراقيون يسمعون عن شيعة وسنة ومسيحيين وأكراد وتركمان وآشوريين وشبك، وتسميات لا أول لها ولا آخر، ويقرأون عن مشاريع وخطط مريبة لتقسيم البلاد حسب الهوية الطائفية أو العرقية، ويدركون أن الهدف هو اسقاط ميزة بلدهم الجيوسياسية، وانهاء دوره التاريخي الذي عرف به في المنطقة والعالم، وقد تكفلت كل القوى الشريرة على انجاز هذا الهدف عبر الأعوام الأثنين والعشرين السالفة حتى أصبح العراق أسير مأزق وجودي لم يشهد مثله من قبل.
تكررت «نيسانات» الوجع سنة بعد سنة، حتى فقد «نيسان» الذي عرفناه في فتوتنا وشبابنا الشهر الذي يزدهر فيه الحب، وتتفتح الأزهار، ويبدأ به الربيع، فقد خصائصه، وتحول الى غول أسود يطبق علينا كلما فتحنا عيوننا على وهج الشمس التي تصلنا من عالم بعيد لكن مرور السنين العجاف جعلنا نسترد بعضا من قدرتنا على المراجعة والتأمل، والتفكير في ما يمكن أن يدفعنا للتقدم خطوة وان كنا ندرك أننا قد نتراجع بعدها خطوتين لأسباب ضاغطة، أو قناعات مستجدة أو لأن اليأس قد يداهمنا ليضعنا في غير الموضع الذي نريده
ما أقسى أن يتذكر الكاتب أوجاع ومرارات اثنين وعشرين عاما، وما أصعب أن يحاول اختصارها في مقالة حدودها بضع مئات من الكلمات!