المطبعي راهب الكلمة.. في ذكراه السابعة
هاني عاشور
لم يرق للحرف أن يبقى بلا معنى ، أو يبقى طائشاً مثل سهم اعمى ، فاختار أنْ يكون في صومعة المطبعي حميد ليتحوّل الى كلمة ، فكانت الكلمة مجلةً ومجالاً ، زحف فيه المطبعي ليصدر مجلة ثقافية ، ثم ليكون ذلك الفتى النجفي ابن العشرينيات صانعاً لحركة ثقافية موثقة ، تفتح أبواب الحداثة في العراق ، ولتصبح نجمة في سماء الثقافة العربية يترقّبها المثقفون في العراق ودول عربية أخرى .
المطبعي ابن المطبعة ومنها جاءت كنيته، إذ أدرك أنّ الكلمة ليست حركة في آلة بل حركة في عقل ، وهكذا كانت بدايته مع الحرف والكلمة ، فشغل الصحافة بعد سنوات واختط لنفسه طريقاً في صناعة الفكر . زار وتفقد جبال إرتيريا وشواطئها، ليكتب عن ثورتها وثوارها آنذاك ، لتصبح الثورة الإرتيرية كتاباً يتصفّحه العرب ويعرفون معنى الثورة في بلاد فقيرة ضد المحتل ، ثم ليرحل المطبعي مع المفكرين والأدباء والكتاب، فيكتب عن سيرهم في عدة مؤلفات ، فأخرج كل هؤلاء من صومعاتهم ليكون راهبهم الذي يعرّف العالم بهم ، في أسلوب جميل ناصع ألذّ ما فيه أنه يعيش معهم اعمارهم فيؤرخها مبادئ ومعالم للأجيال القادمة .
حميد المطبعي الذي رحل في 16-4-2018 مريضاً لم يحظ بمواساة أصدقاء أو منظمات أو دولة ، مات كما كان يحب أن يموت ، منشغلاً بفكره ومتعطشاً لمداد قلمه ، بكل ما في دمه من شغف الإبداع!.
ربما كان كتابه ( رسالة في الحرية ) هو عصارة ما أراد أن يقوله لنا ويعلّمنا معنى أنْ نكون أحراراً في دنيانا ، فعَصَرَ ألمه وقلمه ، ليكتب للتاريخ ولنا قبل أنْ نموت، أنّ الحرية أقدس الأقداس ، وأنها اذا ما ضاعت ، ضاعت الأمم معها ، وأنها النبراس والمتراس لحياة الشعوب ، وما زلت أتذكر كلمات كتابه الذي كان بظني أهم ما كتب الُكتّاب عن الحرية التي أرى أن المطبعي لم يعشها في حياته بل ظل شغوفا بها حالما .
بعد أنْ أنجز موسوعة (أعلام العراق) بمجلداتها الثلاثة التي أصدرتها دار الشؤون الثقافية في عدة مراحل ، كان المطبعي يصارع الزمن ليكتب عن حياة عظماء العراق ، مع إدراكه أنه العظيم الذي سوف لا يكتب أحد عنه .
رافقت المطبعي يومياً لأكثر من عقد من الزمن وتعلمت منه الكثير ، فهو حقا معلّمي الذي لا أنساه ، كنت ارافقه في زياراته وانقله بسيارتي يومياً الى عظماء العراق ليؤرخ لهم إنجازاتهم ، مستمتعاً بأحاديثه معهم وجدله الذي لا ينقطع إلا بهمسة أو ضحكة أو طرفة أجمل ما فيها انها تكون ذات معنى وعليّ أنْ ادركه بعقلي وأتعلم منه.
تعرّفت من خلاله إلى الكثيرين عن أعلام العراق ، مثلما تابعت كتاباته في الصحف العراقية وحواراته مع كبار مفكري العراق ومؤرخيه ومثقفيه. وكنت اتعلم منه صياغة المفردة ، وصناعة ما بين السطور ، وكيف يكون راهب فنّه وابداعه ، وهو يدفع القارئ لما يكتب أنْ يطوف في سردياته عن عظماء العراق ليبحث عن كلمات أو أفكار لم يقلها ، ولكنه في الحقيقة كان يقولها اذا كان القارئ ذكياً واستطاع استخراجها من بئر العقل .
تعلمت منه كيف يتحكم بزمنه ، فأوقات كتابته كانت مثل صلاة الليل ، بعزلة الخشوع والدعاء ، لا يمكن لأحد أن يدنّس سلطانها ، سرعة افكاره كانت تسبق سرعة قلمه وهو يزحف على الورقة بخط جميل يذهل من يتصفحها ، ولغته أنيقة باسقة تعيد للعربية مجدها المقدس ، وفي الصحافة لم نكن نجرؤ أنْ نصحّح كلمة او نستبدل أخرى مما يكتبه المطبعي ، فهو الكمال وما يخرج من بين يديه الكمال .
حميد المطبعي الذي مات مريضاً مهجوراً فقيراً قديساً مقدساً ، أستذكر رحيله اليوم في ذكراه السابعة ، وأنا أناديه وهو يسمعني في قبره .. معلمي، أبي المطبعي .. كنت تقول دائماً أن عظماء العراق يموتون بصمت أو في غربة ، وقد صدقت رؤياك وهذا تأويلها أيها الأب الأحب الأغلى .. رحمك الله .
*”الكلمة”: من أبرز الأدباء والمثقفين الذين كتبوا في الكلمة منذ بداياتها: حميد سعيد، سامي مهدي، موسى كريدي “رئيس التحرير”، نزار قباني، أدونيس، نازك الملائكة، بشرى البستاني، عبد الرحمن طهمازي، جليل القيسي، يوسف الحيدري، اسماعيل فهد اسماعيل، محمود جنداري، وكثيرون غيرهم.