الحرية بين المحتوى الهابط والمستقبل الفارط
منقذ داغر
«حرية التعبير هي أن تقول ما يكرهه الآخرون أو يتحدى مواقفهم» جورج أورويل
« حياتنا الحاضرة هي ليست فقط هبة من أجدادنا، بل هي اقتراضٌ من أحفادنا أيضاً»
على الرغم من تكرار هذه العبارة مرات كثيرة الا أني لا أنفك عن ترديدها: «إذا كان لإحتلال العراق من فضيلة فهي حرية التعبير». هنا يجب ملاحظة شيئين في هذه العبارة. الأول هو أنه على الرغم من الأدّعاء بأن نظام ما بعد الأحتلال هو نظام ديموقراطي لكني لم أذكر أن فضيلة الأحتلال كانت جلب الديموقراطية لأن ما حصل ويحصل في العراق هو أبعد ما يكون عن النظام الديموقراطي (الحقيقي) والذي بات يحتضر ليس في العراق فحسب وأنما في كثير من دول العالم (الديموقراطية). مع ذلك فيجب الاعتراف أن ما نتمتع به في العراق من حرية رأي غير مسبوق في تاريخنا المعاصر وغير موجود في كثير من دول المنطقة. الأمر الثاني الذي يجب ملاحظته في هذه العبارة ومثيلاتها هو (أل)التعريف في مصطلح حرية (التعبير). أن استخدام (ال) التعريف لا يعني لغوياً أزالة الإبهام عن الكلمة وتحديدها فقط، بل يعني الشمول ايضاً. فعندما تقول هذا هو العراقي أو هذا هو الإنسان فأنك تشمل كل العراقيين وكل البشر. وهنا تكمن عقدة هذا المقال.
خطاب كراهية
في تفسيرها لمعنى حرية التعبير عام 1969 رأت المحكمة الأمريكية العليا أنه يعني «كل كلام غير ضار...ويكون الكلام غير ضار عندما يمكن الرد عليه ودحضه». أما في فرنسا فأن حرية التعبير عُّرفت بأنها كل ما ورد في اعلان حقوق الأنسان والمواطن لعام 1789 عدا خطاب الكراهية والتمييز. وعندما تستعرض معظم القوانين او التفسيرات القانونية في مختلف دول العالم التي تتمتع ببحبوحة حرية تجد أنها تقترب من هذا المعنى وتؤكد جميعها على حماية حرية التعبير-بلام التعريف-الا أذا كان يحمل خطاب كراهية وتحريض عنصري أو ديني. لكن كل العُرف القانوني أستقر في تلك الدول على حماية الخطاب الذي «نكرهه،أو يعارض آراء ومواقف الآخرين» لأن الخطاب الذي نحبه لا يحتاج لحماية! فالطغاة يعشقون ويحمون آراء ذيولهم لأنها لا تتحدى ما يعتقدونه ويقولونه. وهذا هو مدى الحرية المسموح بها عندهم. أما ما يكرهون سماعه فهو أما إساءة للأدب أو تجاوز للحرية أو تهديد للأمن الوطني أو أنتهاك لثوابت الدين والمجتمع...الخ
أن العالم بأسره وليس العراق حسب يشهد اليوم صراعاً بين المتطرفين «الخائفين» في طرفَي التيار المحافظ والتيار الليبرالي. فالمحافظون خائفين من فقدان تراثنا والليبراليين خائفين من فقدان حريتنا. أن التوازن المطلوب بين النظرتين يقتضي أن نفهم أن حياتنا الحاضرة هي ليست فقط هبة من أجدادنا، بل هي اقتراضٌ من أحفادنا أيضاً. وكم أتمنى أن تتأملوا هذه العبارة جيداً.
أن فهم هذا المعنى للحياة يجنبنا الوقوع في أغلال الماضي ويمنعنا من أن نستسلم للمستقبل. هذا يعني أن كل خطاب سواء كان يكرهه حرّاس الماضي أو يتحدى دعاة المستقبل المجهول، هو مقبول ما دام بإمكانهم الرد عليه وتفنيده. بالتالي لا يجوز سجن شخص أو إعدامه معنوياً لمجرد أنه قال شيئاً نكرهه أو لا نتفق معه. أن توقيف أو محاسبة شخص تحت بند المحتوى الهابط (الذي أكرهه وأعارضه بالكامل) هو تقييد لحرية التعبير يجب معارضته بنفس الشدة التي أشار لها فولتير بعبارته الشهيرة « قد أختلف معك في الرأي.
قانون معاقبة
لكني مستعد أن أدفع حياتي دفاعاً عن حقك في التعبير عنه». فهبوط المحتوى يعالج ويكافح بالترويج للمحتوى الراقي وليس بمنع المحتوى الهابط. وحينما يسن المشرّعون أو المسؤولون التنفيذيون قانوناً لمعاقبة المحتوى الهابط، فأن من حقي ومن حق المجتمع أن نقول لهم: وماذا فعلتم لترويج ودعم المحتوى الراقي؟ هل حاسبتم المعلم او المدرس او الأستاذ أو المسؤول أو رجل الدين الذي يروج للكراهية والعنصرية والطائفية يومياً في مدرسته وجامعته ووزارته ومؤسسته ومنبره ؟هل نشرتم وكافأتم المحتوى الرائع لعشرات الكتاب ورجال الدين والفنانين والمؤثرين وصناع المحتوى؟ هل بنيتم دار الأوبرا التي نُهبت أموالها وأُهملت كما حصل مع المدارس والجامعات ومراكز الأبحاث ومنصات الأعلام وسواها من مراكز المعرفة والعلم والتطور؟ اليس من حقنا مطالبتكم بقانون «تنمية ورعاية العلم والعلماء»؟ أو قانون «رعاية الأدب والأدباء»؟ أو أن ننفق على الثقافة والأدب أكثر مما ننفق على الأوقاف التي لديها مواردها الخاصة والتي تؤهلها للأنفاق على المجتمع بدل من أن ينفق المجتمع عليها؟ اليس ما ترعونه من خطاب طائفي وعنصري وماضوي هو محتوى هابط؟ من هو الأخطر على المجتمع «صمون عشره بألف» أم خطاب «البصرة شيعية والأنبار سنية»؟ متى ندرك أن صناعة المستقبل تستوجب رعاية الحاضر وليس عبادة الماضي؟!!