التفكيك والتأويل في قصيدة موقف الخضر للشاعر أديب كمال الدين
عبدالكريم الحلو
مقدمة:
جدلية المقدّس والإنساني
من هو الشاعر أديب كمال الدين ؟
يُعد أديب كمال الدين من الأسماء البارزة في الشعر العربي الحديث، حيث استطاع أن يزاوج بين التراث الصوفي، الفلسفة، والرؤية الحداثية للوجود واللغة.
يتميز شعره بنزعة رمزية عميقة، حيث يوظّف الشخصيات الدينية والأسطورية لإعادة طرح الأسئلة الكبرى حول الإنسان، القدر، والمصير.
كما أنه يمتلك قدرة على تطويع اللغة بطريقة تدمج بين المباشر والتأويلي، مما يجعل نصوصه تحمل أكثر من طبقة دلالية.
تستدعي قصيدة “موقف الخضر”
شخصية الخضر، التي ارتبطت بالمعرفة الباطنية والسر الإلهي، وفقًا للسردية القرآنية في سورة الكهف.
غير أن الشاعر لا يكتفي بإعادة إنتاج هذا المشهد، بل يُعيد تفكيكه ليُدخل القارئ
في حوار مع مفهوم القدر، السلطة المطلقة، والتفسير الإلهي للأحداث.
القصيدة تستلهم الموقف القرآني الشهير للخضر مع النبي موسى، حيث بدا الخضر ظاهريًا مخالفًا للمنطق الأخلاقي الإنساني، لكنه كان ينفّذ إرادة عليا لا تدركها العقول السطحية.
لكنّ الشاعر يُوسّع هذه الدائرة، ليجعل الخضر رمزًا لنظام الكون الذي يتحكم في مصائر البشر، حيث تتداخل الأقدار بين العزّ والذل، الفقر والغنى، القوة والضعف، والموت والحياة.
القصيدة لا تستهدف إثارة المشاعر فقط، بل تعمل على تحفيز العقل للتفكير في مفاهيم كبرى مثل: القدر، العدل، والتحولات الوجودية. وهذا ما يمنحها قيمة فلسفية إلى جانب قيمتها الجمالية.
تفكيك البنية الدلالية:
تعددية الأصوات والتناص
مع النص المقدس
1. الصوت الإلهي
مقابل الصوت البشري :
-------------------
يبدأ النص بصوت يستدعي الخطاب الإلهي:
ع
“أوقَفَني في موقفِ الخضِر وقال: يا عبدي…”
يبدو المتحدث هنا وكأنه ذات عليا تخاطب الإنسان، مستخدمة الأسلوب الخطابي المباشر.
لكنه ليس خطابًا إلهيًا بالمعنى اللاهوتي، بل هو خطاب يُعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والقدر، حيث يُوَظَّف الخضر كنموذج للفاعل القدري الذي يُجري التغييرات الكبرى في حياة البشر.
بالتوازي، يظهر صوت المتلقي، وهو الإنسان الذي يُحاول فهم هذا النظام الكوني. لكنه في موقع المتفرّج، لا الفاعل، إذ يُطرح عليه السؤال:
“أرأيتَ كيفَ أغرقَ الخضِرُ السفينة؟
" أرأيتَ كيفَ قتلَ الغلام؟”
هنا، يتم تكرار الأفعال الثلاثة التي قام بها الخضر في القصة القرآنية، لكن بأسلوب يجعل القارئ يعيد النظر في جدلية العدل الإلهي، حيث تتداخل الحكمة المطلقة مع الألم الإنساني.
2. استبدال الخضر
بمنظومة كونية شاملة :
--------------------
يتم الانتقال بعد ذلك إلى مستوى آخر من التأويل، حيث لم يعد الخضر مجرد شخصية قرآنية، بل أصبح رمزًا لنظام كوني متكامل، هو الذي يتحكم في تبدّل الأحوال بين البشر:
“وبأمثال الخضر أُعيدُ صياغةَ كوني،
وأرتّبُ ساعاتِ يومي،
وأداولُ الأيامَ بين الناس…”
هنا، يتم تفكيك مركزية الفعل البشري، حيث يصبح الإنسان خاضعًا لقوى تتحكم به وفقًا لمنطق لا يُدركه، تمامًا كما لم يُدرك موسى أفعال الخضر إلا بعد تأويلها لاحقًا.
3. التفكيك الجدلي
لمفهوم العدل الإلهي :
---------------------
من أخطر المقولات التي يطرحها النص:
“فأخرجهم بالحقِّ من بابِ العزّ إلى بابِ الذُّلّ، فالعزّةُ لي وحدي.”
“وأخرجُهم بالحقِّ من بابِ الغنى إلى بابِ الفقر، فأنا الغنيّ وأنتم الفقراء.”
هنا، نجد خطابًا يستعير الصياغات القرآنية، لكنه يُوظّفها بطريقة تعيد النظر في المفاهيم الدينية التقليدية حول العدل الإلهي.
فالتحولات التي تجري في حياة البشر ليست عشوائية، لكنها أيضًا لا تخضع لمنطق أخلاقي واضح من وجهة النظر الإنسانية.
التحليل التفكيكي:
===========
زعزعة الثنائيات وإعادة ترتيب العلاقة
بين الإنسان والقدر
1. ثنائية الفاعل والمفعول به :
• في القصة القرآنية، كان الخضر هو الفاعل، وموسى هو المتلقي الذي يعجز عن الفهم.
• في القصيدة، يصبح الإنسان مجرد كائن تتحكم به قوى أكبر، دون أن يكون له حتى دور الاعتراض أو التساؤل كما فعل موسى.
** هنا، يطرح النص تساؤلًا فلسفيًا وجوديًا: هل الإنسان مجرد أداة في يد القدر؟
أم أن فهمه للأحداث لا يزال ناقصًا
كما كان فهم موسى؟
2. تفكيك ثنائية العدل والظلم :
عندما يكرر النص عبارة:
“فأخرجهم بالحقِّ من بابِ العزّ إلى بابِ الذُّلّ…”
يتم تقديم هذا التحوّل كفعل “حقّ”،
وهو ما يُربك القارئ الذي قد يراه ظُلمًا من وجهة نظره.
هنا، يُعيد النص إنتاج الصدمة الفكرية
التي أحدثها موقف الخضر مع موسى:
كيف يمكن أن يكون :
الغرق،
القتل،
والهدم ،
أفعالًا تحمل حكمة خفية؟
وكيف يمكن أن يكون التنقّل
بين العزّ والذلّ جزءًا من “الحق”؟
هذا التشكيك يُفجّر إشكالية كبرى حول إدراك الإنسان للعدالة،
ويطرح سؤالًا أعمق:
هل العدل مفهوم مطلق أم أنه يتغير بتغير السياق والزمن؟
3. ثنائية البقاء والفناء :
يصل النص إلى ذروته عندما يقول:
“أدفعهم جميعاً فأنا الحَيّ الباقي،
لأرجعهم إلى بابي فُرادى
كما خلقتُهم أوّلَ مَرّة.”
هنا، يتم التأكيد على حتمية الموت والفناء، حيث يصبح الإنسان مجرد عابر في منظومة أكبر منه.
لكن ما يُثير الاهتمام هو استخدام فعل “أدفعهم”، الذي يوحي بأن الموت ليس مجرد حدث طبيعي، بل هو جزء من نظام كوني أشبه بمسرح تتحكم به قوى خفية.
الاستنتاج:
======
تفكيك السلطة المطلقة وإعادة تأويل العلاقة بين الإنسان والقدر
قصيدة “موقف الخضر”
ليست مجرد إعادة استحضار لنص قرآني، بل هي تفكيك عميق لمفهوم السلطة المطلقة والعدالة الإلهية،
بطريقة تجعل القارئ يتساءل عن موقعه في هذا النظام الكوني.
هل الإنسان قادر على فهم الحقيقة المطلقة؟
أم أنه سيظل، مثل موسى،
عاجزًا عن إدراك الحكمة وراء الأحداث؟
الشاعر لا يُقدّم إجابة مباشرة،
لكنه يترك القارئ عالقًا في دوامة الأسئلة، حيث تصبح كل محاولة لفهم الحياة مجرد اجتهاد نسبي في مواجهة سرٍّ كونيٍّ أعظم.
بهذا، تتحوّل القصيدة من مجرد تأمل ديني إلى عمل فلسفي تفكيكي، يُعيد النظر في المفاهيم الكبرى التي تحكم علاقتنا بالقدر والكون.
قصيدة “موقف الخضر” ليست مجرد نص شعري، بل هي عمل فكري وجودي يزاوج بين الشعر والفلسفة والتأمل الديني، بأسلوب حداثي يعيد قراءة المفاهيم التقليدية برؤية جديدة.
من حيث الفكرة:
تعتمد على التناص والتوظيف الرمزي
و من أقوى عناصر القصيدة هو التناص
مع قصة الخضر وموسى، حيث يستخدم الشاعر هذا التناص ليس لإعادة سرد القصة،
بل لإعادة تفكيكها وتأويلها برؤية جديدة. هذا الأسلوب يُثري النص، لأنه يجعل القارئ يتفاعل معه على مستويين:
• المستوى الأول:
استدعاء القصة الدينية كما يعرفها.
• المستوى الثاني:
مواجهة رؤية جديدة تُعيد طرح التساؤلات التي لم تكن مطروحة في السياق التقليدي.
القصيدة عميقة وتطرح تساؤلات فلسفية حول المصير الإنساني.
من حيث اللغة:
قوية، ذات طابع قدسي وتأملي، وتوظّف التكرار ببراعة لخلق إيقاع داخلي مؤثر.
اللغة في القصيدة تحمل طابعًا خطابيًا مهيبًا، يُشبه أسلوب النصوص المقدسة، مما يمنحها قوة تأثيرية ويعمّق إحساس القارئ بجلال الفكرة.
لكنّ هذه اللغة ليست تقريرية جامدة، بل تنبض بإيقاع شعري يُحفّز التأمل. استخدام التكرار في جمل مثل:
“أرأيتَ كيفَ أغرقَ الخضِرُ السفينة؟
أرأيتَ كيفَ قتلَ الغلام؟”
يُضفي على النص إيقاعًا موسيقيًا يشبه التراتيل الصوفية، مما يعكس البُعد الروحي للقصيدة.
من حيث البناء الفني:
يعتمد على تصاعد الأفكار، مما يجعل القارئ ينتقل من مستوى الإدراك التقليدي إلى مستوى التأويل الفلسفي.
القصيدة تعتمد على بناء تصاعدي، حيث تبدأ بالسؤال عن أفعال الخضر، ثم تنتقل إلى طرح رؤية كونية متكاملة حول مصائر البشر. الصور الشعرية في النص عميقة لكنها متخفية داخل البنية الفكرية، فالشاعر لا يعتمد على الوصف الحسي المباشر، بل يخلق صورًا رمزية تجسّد التحولات الوجودية، مثل:
“وأداولُ الأيامَ بين الناس، وأداولُ الناسَ بين الأيام، وأداولُ الناسَ بين الأبواب.”
هذه الصورة ترسّخ فكرة القدر المتقلّب، حيث يصبح الإنسان مجرد عنصر في لعبة كونية تتجاوز فهمه المحدود.
من حيث التأثير:
تترك أثرًا فكريًا يتجاوز اللحظة الشعرية، مما يجعلها نصًا تأمليًا يحتاج إلى قراءة متأنية.
* الشاعر أديب كمال الدين
بوركتم يالك من شاعر بارع وعظيم
بارك الله فيك ، وجعل ربي البركة في صحتك وفكرك ومن تحب.
مع التحية
د. عبدالكريم الحلو
-----------------
القصيدة :
--------
موقف الخضِر
شعر: أديب كمال الدين
أوقَفَني في موقفِ الخضِر
وقال: يا عبدي
أرأيتَ كيفَ أغرقَ الخضِرُ السفينة؟
أرأيتَ كيفَ قتلَ الغلام؟
وكيفَ أقامَ الجدار؟
بالخضِر وبأمثال الخضِر
أعيدُ صياغةَ كوني،
وأرتّبُ ساعاتِ يومي،
وأداولُ الأيامَ بين الناس،
وأداولُ الناسَ بين الأيام،
وأداولُ الناسَ بين الأبواب.
فأخرجهم بالحقِّ من بابِ العزّ
إلى بابِ الذُّلّ،
فالعزّةُ لي وحدي.
وأخرجُهم بالحقِّ من بابِ الغنى
إلى بابِ الفقر،
فأنا الغنيّ وأنتم الفقراء.
ثُمَّ أخرجهم من بابِ القوّة
إلى بابِ الضَعْف،
ومن بابِ الضَعْف إلى بابِ الهلاك
ثُمَّ أدفعهم دفعاً حتّى باب الموت.
أدفعهم جميعاً فأنا الحَيّ الباقي،
لأرجعهم إلى بابي
فُرادى كما خلقتُهم أوّلَ مَرّة.
أرأيتَ إلى سِرِّي؟
أرأيتَ إلى عَظَمةِ سِرِّي؟