التشكُّل الرمزي والفضاء الدلالي في قصيدة 'تعال نحلق فوق عش الوقواق'
عادل الثامري
مدخل نظري ومنهجي
تستدعي قراءة قصيدة 'تعال نحلق فوق عش الوقواق' للشاعر حيدر الكعبي منظومة تحليلية تتجاوز المقاربات الشكلانية التقليدية نحو حقل السيميائية الشعرية باعتبارها إطاراً ابستمولوجياً أكثر قدرة على استنطاق النص وتفكيك طبقاته الدلالية المتعددة. إن التعامل مع هذا النص يقتضي ما يسميه أمبرتو إيكو "السيميوزيس المفتوح" حيث تتكاثر العلامات في شبكة دلالية ذات تعالقات لا نهائية، وتصبح القصيدة حقلاً للتدليل المتناسل.
يشكل العنوان "تعال نحلق فوق عش الوقواق" نصا موازيا يؤسس أفقاً توقع يُحيل إلى منظومة تناصية استراتيجية. يتأسس هذا المستوى التناصي على ما أسمته كريستيفا "امتصاص النص وتحويله" اذ يستدعي النص السردي المرجعي (رواية كين كيسي) ليخضعه لتحوُّل دلالي ينقله من فضاء السرد إلى فضاء الشعر، ومن السياق الأمريكي إلى السياق العراقي المثقل بإشكالات الحرية والقمع. وتؤسس العبارة الافتتاحية "تبّـاً لمسـوخ الطيرِ هذه!" مفتاحا تأويليا يوجه مسار القراءة نحو فضاء دلالي محدد: فالطيور هنا ليست كائنات طبيعية بل "مسوخ"، أي علامات مركبة تجمع بين الإنساني والحيواني في ثنائية هجينة تحمل دلالات التشوه والانحراف.
يستهل الكعبي قصيدته باقتباس للشاعر مهدي طه (1953-1975): "يا رفيقَ المجاعةِ، ما كان لي أن أَهَـبْ /جنونَكَ غيرَ الوصايا التي أسْـقَطَتْني إليك، / أن أحطَّ تطلُّـعَ عينينِ فيكَ، / وأن أنتهي حيث تبدأُ أنت." يشكل هذا الاقتباس "العتبة الاستهلالية" التي تعمل كمفتاح تأويلي للنص اللاحق. من منظور سيميائي، يمكن النظر إلى هذا الاقتباس باعتباره "ميتا-نص" يؤسس لجملة من الوظائف السيميائية داخل بنية النص.
يعمل الاقتباس كمرجعية تستدعي صوت شاعر سابق توفي في سن مبكرة، ليصبح مهدي طه "شخصية-نص" تمثل نموذج المبدع المغدور الذي خُنقت تجربته في بدايتها، مما يخلق توازياً مع ثيمة القمع المركزية في القصيدة. هذا التناص لا يقتصر على استدعاء شخصية تاريخية فحسب، بل يعمق من دلالات النص من خلال إضفاء بعد تراجيدي على الصراع الذي يعيشه الشاعر المعاصر، وكأنه يستمد شرعيته الأخلاقية والفنية من هذا الارتباط بالمبدع المغدور.
يشكل الاقتباس "إطاراً دلالياً" يحدد فضاء التأويل للنص. عبارة "يا رفيق المجاعة" تؤسس لسياق وجودي مشترك، بينما تصوغ عبارة "أن أنتهي حيث تبدأ أنت" مفهوم التواصل الشعري الذي يتجاوز الموت. هذا الإطار لا يقتصر على تحديد السياق الدلالي فحسب، بل يعمل أيضاً على توجيه القارئ نحو قراءة النص كحوار بين صوتين: صوت الشاعر المغدور وصوت الشاعر المعاصر الذي يحاول استكمال المسيرة.
يحتوي الاقتباس على "سيميمات"(مكونات دلالية أساسية) تتكشف لاحقاً في متن القصيدة كالجنون، والسقوط، والعين/البصر، مما يجعله بمثابة "خريطة دلالية مصغرة" للنص بأكمله. هذه السيميمات تعمل كبذور دلالية تنتشر في النص لاحقاً، مما يعزز تماسكه الداخلي ويخلق شبكة من الإحالات المتداخلة التي تربط بين الاقتباس والمتن.
على المستوى الدلالي، تتحول ثنائية "النهاية/البداية" في الاقتباس إلى فكرة الموت والانبعاث في المتن، خاصة في صورة "التلميذ الذي يُجهز على المعلم" ثم يواصل التحليق. هذا التحول يعكس رؤية الشاعر لدورة الحياة والموت، اذ يصبح الموت نقطة بداية جديدة بدلاً من أن يكون نهاية مطلقة. وعلى المستوى الرمزي، يتطور رمز "العين" من الاقتباس ("أحطّ تطلع عينين") إلى شبكة رمزية معقدة في المتن تشمل "زجاج عينك الدامع" و"عينيك الياقوتيتين" و"حاجباً عينيه بجنحيه"، وهو يعكس تحولاً من الرؤية المحدودة إلى الرؤية المتجاوزة.
وعلى المستوى اللغوي، يخلق التباين بين لغة الاقتباس الغنائية المكثفة ولغة المتن الدرامية الحوارية ما يسميه ياكوبسون "التباين الأسلوبي" الذي يعزز التكامل بين الصوتين. هذا التباين لا يقتصر على الشكل فحسب، بل يعكس أيضاً تعدد الأصوات والرؤى داخل النص، مما يعمق من أبعاده الدلالية.
يكتسب الاقتباس الاستهلالي أيضاً بعداً ميتاشعرياً يجعله تأملاً في طبيعة الشعر نفسه، حيث تصبح عبارة "أن أنتهي حيث تبدأ أنت" إعلاناً عن مفهوم "التناص الخلاق" الذي يجعل النصوص تتوالد وتتكامل. هذا البعد يعكس وعي الشاعر بدوره كجزء من سلسلة متصلة من المبدعين الذين يستمدون من بعضهم البعض، وهذا يعمق من دلالات النص ويجعله تأملاً في طبيعة الإبداع نفسه.
تتشكل في النص استعارة كبرى تؤسس لفضاء رمزي متكامل حيث تتوزع الطيور المختلفة كمستويات ترميزية متباينة:
"إليكِ عني، أيتها الغرانيق ذواتُ الرقابِ الثعبانيّـة." تتحول "الغرانيق" هنا إلى "دال عائم" يحيل إلى السلطة المخادعة التي تجمع بين تناقضين: الجمال الخارجي (الغرانيق) والخبث الداخلي (الرقاب الثعبانية). هذه الثنائية تؤسس لنظام سيميائي يقوم على التضاد الوظيفي، اذ تتنافى الدوال مع مدلولاتها في مفارقة تكشف عن زيف المظاهر.
كما يمثل اللقلق العجوز في "علامَ ترمُقُني شَـزْراً بزجاجِ عينكَ الدامع أيها اللقلقُ العجوز، يا كرةً من ضباب؟" علامة سيميائية محمّلة بـ"سيميم" الحكمة المتهالكة والسلطة الأبوية المتداعية. الوصف "كرة من ضباب" يعمل كمؤشر أيقوني يحيل إلى ضبابية الرؤية وعجز المنظومة التقليدية عن استيعاب التحولات، وهذا يعزز الشحنة السلبية للعلامة ويخلق ما توترا دلاليا.
وفي "وأنتَ أيها الغطّاسُ الوسيم، / بعينيكَ الياقوتيّـتين، / وخِصْـلتَي لهبٍ فوق أذنيك، / هلا جرّبتَ الغوصَ في الخرسانة، / بدلَ أن تحشرَ منقارَكَ في منخري؟"، يشكل "الغطاس الوسيم" علامة مركزية تؤسس لاختلاف مؤجل، فهو شخصية تحمل سمات متناقضة: الجمال (وسيم) والقدرة على الاختراق (الغوص)، لكنه يستخدم هذه القدرات في ممارسة عقيمة (حشر المنقار في المنخرين) بدلاً من مواجهة الصلابة (الخرسانة). تتضح هنا تقنية توظيف الإيحاء الرمزي لنقد المثقف الذي يقف متفرجاً أو منغمساً في تفاصيل هامشية.
يمكن تتبع بنية التقابلات الثنائية في النص وفق نموذج المربع السيميائي، حيث تتشكل ثنائيات متداخلة: "تحت الأقدام الحديدية/ عبثاً أطالوا التفتيش عن الأمل./ فلئنْ تكن السقوفُ الواطئة/ أشد دفئاً / فلطالما حالتْ دونَ رفعِ الرؤوس." تتجلى هنا ثنائية القمع/الخنوع (الأقدام الحديدية/السقوف الواطئة) التي تتقاطع مع ثنائية الدفء/الحرية (أشد دفئاً/رفع الرؤوس). هذا التقاطع يخلق ما يسميه لوتمان "التوتر السيميوسفيري" الذي يُثْري النص بتعدد مستوياته الدلالية ويجعله أكثر قدرة على استيعاب التناقضات الوجودية.
في المقطع التالي نجد توظيفاً للمتقابلات اللونية بما يعزز الثنائيات الأيديولوجية: "وها قد نشرتَ جناحيكَ أمامَ دهشتهم. /آه! يا للسماء في عينيه! / يا لحقول الشذر المترامية! ليستْ خِلْواً من الغيوم، / لكنْ فسيحة وجامحة. / وأيُّ بأسٍ في نُدَفِ الثلج عبْر طوفان اللازورد؟ تشتغل علامات "اللازورد" (الأزرق العميق) و"الثلج" (الأبيض) كمؤشرات لونية تُحيل إلى الحرية والنقاء، في مقابل: "أنظرْ هناك، هناك، فوق/. أيُّ طائرٍ هذا؟ / إنه يقطع السـبيلَ على النور/ بأجنحة من القطران/ ولسـانٍ من الدم..."، حيث تُشكل علامات "القطران" (الأسود) و"الدم" (الأحمر) ثنائية مضادة تحيل إلى القمع والعنف. هذا التوظيف اللوني يخلق ما يُسمى في السيميائية البصرية التضاد اللوني الذي يعزز البنية الدلالية للنص.
يشهد النص تحولاً درامياً يمثل ذروة الصراع بين الحرية والقيود، بين الحياة والموت. هذا التحول يتجلى في المقطع التالي: "ألا فلـتَـقَـرَّ عينُ الحريّــة! / تلك العروس الباهظة المَهْـر/، بإكليلها الأرجوانيّ وموكبها العاصف. /طائرٌ ناريُّ العينين/ يطفيءُ ذبالةَ الشَّـمْـع. / أضرى عناق في أقتل حب." يعكس هذا المقطع الوحدة الأساسية للأسطورة، أي الموت والانبعاث، حيث يتحول الطائر إلى رمز فدائي يقدم نفسه قربانًا للحرية. هذا التحول الدرامي يعكس الصراع التراجيدي بين الفناء والخلود، بين الموت والحياة، في لحظة ذات بُعد ملحمي.
الصياغة "أضرى عناق في أقتل حب" تمثل طباقًا يجمع بين المتناقضات، يعبر عن جدلية الفناء والخلود، الموت والحياة. هذا الطباق يظهر التناقض الداخلي الذي يعيشه الشاعر، حيث يتناقض الحب مع القتل، والعناق مع الأضرار. هذا التناقض يعكس الصراع التراجيدي بين الرغبة في الحياة والحرية، والواقع الذي يفرض الموت والفناء.
تنتهي القصيدة بصورة الطائر المُحلق رغم جراحه: "لقد انطلقَ فعلاً، / أوه، /ليس بلا جراح، بالطبع، / لكنْ، رغمَ كلِّ شيْ، / فقد حلَّـقَ بجنـاحٍ طليــق، /عالياً، فوقَ عُشِّ الوقواق." وتشكل هذه الخاتمة تـأويلا مفتوحا، إذ ان الانتصار مشوب بالألم (ليس بلا جراح). والتحليق بجناح طليق يمكن أن يرمز أيضًا إلى التحول من حالة العجز واليأس إلى حالة الأمل والحرية. وهذا يعكس دورة الحياة والموت، حيث يتحول الشاعر من حالة القيود إلى حالة الانطلاق والحرية. ومادامت الطيور في القصيدة ترمز إلى البشر الذين يحاولون الهروب من واقعهم المظلم. "حلق بجناح طليق" يعكس نجاح الشاعر في تحقيق هذه الرحلة الروحية والفكرية نحو الحرية.
تقدم قصيدة حيدر الكعبي، في ضوء هذه القراءة، نصاً مركباً يحتشد بالعلامات والرموز، ويوظف تقنيات شعرية لبناء رؤية فلسفية لإشكالية الحرية والقمع. تتجاوز القصيدة البعد الجمالي نحو أفق أنطولوجي يتعمق في شروط الوجود الإنساني في ظل أنظمة القمع والإقصاء، مما يجعلها نصاً مفتوحاً على التأويل، قابلاً للتجدد الدلالي عبر سياقات القراءة المختلفة.