الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
طوفان من الجماجم في معبد الحلوى أو موت الثورة في ثورة الموت


 قراءة في رواية أم الزين بن شيخة: طوفان من الحلوى في معبد الجماجم :الدار العربيّة للكتاب2021

طوفان من الجماجم في معبد الحلوى أو موت الثورة في ثورة الموت

محمد صالح مجيّد

 

  توطئة

هل حسم Albert Camus مسألة العلاقة بين الفلسفة والرواية بقوله "الروائيون العظماء فلاسفة عظماء"1 هل ضيّق هذا الروائي/الفيلسوف المثير للجدل حيّز الرواية أم وسّعه؟؟؟.

في الحقيقة، لم تكن الفلسفة، أو فعل التفلسف غائبيْن في أشكال التعبير الفنية  المتنوّعة التي ابتدعها الإنسان في رحلة وجوده على الأرض. فقديما اتخذت الفلسفة الإطار الحواري قالبا لها.وكان المسرح وسيطا لنقل أفكار فلسفية إلى عامة الناس. ولما مضى "نيتشه" في كشف فلسفة الإنسان المتفوّق كما يراها، اختار  لها القالب الروائي في "هكذا تكلّم زارادشت".

ولم تنعزل الفلسفة  إلّا في القرن العشرين عندما اتّخذت شكل المقالة الموضوعيّة و تحوّلت إلى بحث أكاديميّ لا يُقبل عليه إلا قلّة. ويتّضح من المنجز الإنساني أنّ العلاقة بين السّرد والفلسفة هي علاقة قديمة فما الرواية  على حد قول ألبير كامو إلا"فلسفة تمت صياغتها في صورة خيالية..وفي الرواية الجيّدة تختفي الفلسفة في ثنايا الصور الخيالية"2

ويذهب الفيلسوف كمال يوسف الحاج(1917/1976) بعيدا  في موسوعته الفلسفية تأكيدا للترابط والتواشج بين الأدب والفلسفة بقوله"أدب لا يتفلسف وفلسفة لا تتأدّب يبقيان دون بقاء لأنّ كلّا منهما واجب وجود الآخر.وهذا يعني أنّ فلسفة الأدب هي ذاتها أدب الفلسفة..الأدب الخالد هو الذي تحرقه ال لماذا النقّاقة"3

لقد لعبت "الرواية الفلسفية"،في مختلف العصور، دور الوسيط في تبسيط المعارف وإثرائها وتمكين الجمهور الواسع من الاطلاع على عالمها المغلق .وقد اختار "ألبير كامو "الرواية سبيلا إلى تقديم فلسفته الوجودية والعبث في رواية الغريب   L étranger و الطاعون la pesteأسطورة سيزيف Le mythe de Sisyphe

وتأسيسا على هذا الزعم تقول "أم الزين بن شيخة" ليس ثمة مسافة فاصلة بين كتاباتي الفلسفية (في اختصاص فلسفة الفنّ تحديدا )وكتاباتي الإبداعية (رواية وشعرا). وذلك لأنّ من يطمح إلى إنشاء فلسفة للفنّ مطالب بأن يعيش التجربة الفنيّة من داخلها، وإلاّ تحوّل إلى مجرّد متحذلق أكاديمي. لا يمكن أن ندخل ميدان صناعة المعنى ونحن لا نعرف كيف يتمّ إبداع المعاني وتبذيرها. أمّا عن الكتابة في مجال الفضاء العمومي فذلك في علاقة بمهمّتي كمواطنة تونسية أو إن شئت كمثقفة ملتزمة بقضايا وطني وبما يعيشه من تحوّلات سياسية من واجبنا الاشتغال عليها حتى يبقى لنا وطن نحيا على أرضه. وأنا أعتقد أن المثقف ليس مجرّد أكاديمي يبيع المعرفة، إنّما هو مناضل من أجل القضايا العادلة والفئات المهمشة والمسحوقة. "4.

يتّضح من خلال هذا القول أنّ الكتابة الروائيّة عند "أم الزين بن شيخة" تنخرط ضمن أفق إنشاء فلسفة للفنّ وللجمال عموما وما هي إذن إلّا حلقة من حلقات مشروعها المعرفي الجمالي الذي يتواشج فبه الإبداعي والفكري و النقدي.

وسنحاول في هذا المقال  فكّ شفرة التقاطع بين الروائيّ الجماليّ الفنّي  والفلسفيّ المعرفيّ  في رواية اختارت لها عنوانا لافتا يضعنا في أتّون هذا التمازج والتلاقح "طوفان من الحلوى في معبد الجماجم"5

 في الرواية

"طوفان من الحلوى في معبد الجماجم" هي ثالث روايات "أم الزين شيخة" صدرت عن الدار العربية للكتاب سنة2021 .وكانت الروائية قد أصدرت روايتين هما "جرحى السماء" 6و"لن تجنّ وحيدا7

 

في العنوان

يرسم العنوان مشهدا قائما على التقابل بين الحركة العنيفة "الطوفان" والسكون" المعبد" حيث تنام الأرواح والأجساد في مقبرة الأبديّة. وبين الحياة "الحلوى" والموت "الجماجم". إنّ الطوفان فعل إلهي ضخم كاسر للفعل الإنساني الذي يستحيل بقايا جسد في قبر لا تظهر منه إلا "الجماجم"

يعكس العنوان رحلة الإنسان في الكون التي تنطلق طوفانا من القوة والحركة وتنتهي سكونا(الجماجم) تأكيدا لوجود قوّة قاهرة متسلّطة تفوق قوة الإنسان قدرة واتساعا .وبالنظر إلى عالم الرواية المنفتح على فضاء الموت والقتل والدمار والصمت يستحيل العنوان موقفا من رجّة اجتماعية وسياسية دكّت تونس، انطلقت ثورة عنيفة وانتهت موتا وقتلا وسفكا للدماء.

في رمزية الجمجمة

تحيل "الجمجمة" مباشرة على عالم الموت والنهاية. إذ تظلّ آخر ما يتحلّل من الجثّة وفق ما تثبته الحفريات والبحوث .وقد أصبحت " الجمجمة"في العصور المتأخرة عنوان الخطر والموت. حتّى أنّ كلّ المواد السّامة القاتلة المنقولة  تحمل علامة "الجمجمة" تأكيدا لخطورتها على الإنسان. على أنّ الجمجة قد اتّخذت عند بعض الشعوب القديمة معنى البعث الروحي بما أنّها الجزء الصامد من الإنسان الذي يخفي الروح المتخفيّة والمحروسة في قوقعة الجمجمة والتي ستبعث من جديد في عالم آخر. Le crâne peut en effet être vu comme symbole de renaissance spirituelle : en tant que partie impérissable du corps, il renferme en lui l’âme et incarne la mort physique par laquelle il faut passer pour atteindre un niveau spirituel supérieur   8

 وعلى هذا النحو تحمل الجمجمة معنى الوصل بين الموت منتهى والحياة أملا يشرق من جديد في عالم يعيش الإنسان على أمل أن يكون أفضل في لعبة الوجود والعدم المتواصلة على مرّ العصور و التي ستصل يوما إلى مدارها النهائي في مكان مّا يسمى "الأبديّة".

.ولعلّ  قارئ هذه الرواية التي تتعدّد فيها مشاهد الموت والدمار والقتل والعبث سيدرك  أنّ "أم الزين بن شيخة" وهي ترسم  لوحة البؤس الطاغي على الوجوه والأقوال والأفعال، تحاول من خلال هذا العنوان/الرمز الإشارة إلى أنّ الوضع قاتم والصورة بائسة لكن ثمّة مكان مّا ،شخص مّا، فكرة مّا، ستعيد الحياة إلى هذا العالم المليء بالقتل والدمار .نعم في الدنيا حلوى تلهي الإنسان بحلاوتها عن مصيره الحتمي فيتجبّر ويتكبر لكن تأتي النهاية لتضع حدا لهذا الطوفان ويستقر"جمجمة" في معبد من الجماجم انتظارا ليوم البعث.

كتابة النهاية

 إنّ الطوفان من الكوارث الطبيعيّة التي أفنت مدنا وشعوبا. و هو رمز غضب الطبيعة والفعل الإلهي الذي  يؤكد ضعف الإنسان أمام الخارقة وإن تعاظمت أفعاله. من العنوان، وفي التجاويف والقاع،  تضعنا الرواية في أتّون مسألة حارقة كانت ومازالت مشغلا من مشاغل الفلاسفة :ترصد علاقة  بالإنسان بالطبيعة و بالإله وبالقدر الذي يودي به إلى نهاية محتومة. فهل اختار "عبد الباقي" لنفسه أن يصبح "كوشمارا" أم أنّ عوامل وقوى ومؤثّرات تفوق حجمه و قدرته قد حوّلته إلى "كوشمار" من حيث ظنّ أنّه باق !!؟ لماذا حدث هذا "المسخ"métamorphose  لميّارى  وكوشمار  وخازوق ؟؟

لقد حوّلت "أمّ الزين" روايتها في بعض المواطن إلى مرقص للجثث وحفل تتنادى فيه الرؤوس المذبوحة لتقول كلماتها الأخيرة على نخب النهاية "وتلتقي الرؤوس المذبوحة أيضا...قالت الرأس المذبوحة رقم واحد: علقوا أسماءهم على رؤوس الراحلين وجلسوا القرفصاء حذو أخر طفل يتيم ...قتلوا بالأمس وغدا وبعد قليل" 9

 كتابة الكارثة

أسّس موريس بلانشو لمفهوم كتابة الكارثة أو الفاجعة 10 التي أمست عنده ضربا من ضروب استكشاف تجارب الغياب والزوال  والموت واللاجدوى أو اللامعنى. ويرى "بلانشو" أنّ الكارثة تنشئ نوعا من الصمت العاجز عن التعبير. وهكذا تصبح الكتابة سلاحَ مَنْ يروم فهم ما لا يمكن قوله بشكل كامل.  وإلى ذلك فالكتابة عنده مرتبطة ارتباطا وثيقا بالموت إذ تستحيل معبرا وجسرا  للتأمّل في الفناء. فما الكتابة عنده إلا محاولة essaiمدارها مواجهة الموت والفراغ11

وقد اختارت أم الزين أن تجعل من روايتها مشاهد وفصولا من ألوان الموت التي غطت سماء تونس منذ 2011 عندما لعلع صوت الرصاص في غفلة التأسيس والحلم بوطن أجمل"ذبحوا هذا الصباح تحديدا...حين انسحبت اللغة من المشهد لكنهم شطبوا دماءهم سريعا كي لا تتعطل حركة مرور مسؤول حكوميّ لا زال مشغولا بغسل يديه جيّدا..لكنّهم ذبحوا في رمشة عين لم يستغرق ذبخهم وقتا طويلا...بعد أن علّقوا الوطن عاريا على قارعة السفن"12

لقد تحدّث "بلانشو" عن صعوبة الشهادة على الكوارث إذ كيف يمكن للمرء أن يشهد على ما يتجاوز الفهم أحيانا. هنا تتحوّل الكتابة في نظره إلى محاولة للقبض على لحظات فارّة من الزمن يصعب التعبير عنها. وفي هذا ما يفسّر لهث "أم. الزين" وجريها وراء الأحداث تريد أن تمسك بها وهي فارّة من زمانها ومكانها. صعبت الشهادة واستحالت... وحدها الكلمات كانت تطارد برق الأحداث وهو ينطفئ ما أن يظهر...ما حدث في "جبل المغيلة" وما وقع في الفضاء العام من أحداث قتل وتفجير حوّل الرصّد إلى متاهة ،والجري إلى ضرب من ضروب العبث. ولم يبق بعد معاناة المتابعة إلا الشعور بالقرف"فشلت كل الثورات العربية وتحوّلت مدائن العرب إلى حطب للتاريخ وماخور كبير لأجندات ولوبيات عالميّة.13

يرى  بلانشو أنّ كتابة الكارثة هي استكشاف للحدود التي يمكن أن تصل إليها اللغة في التعبير عن التجربة الإنسانية في مواجهة الفقدان والمأساة.وقد حفرت أم الزين عميقا في كشف ممكنات اللغة على المواجهة ونفي الموت والكارثة بالتسريد والتخييل وتنويع أشكال التعبير شعرا وسردا وتأملات فلسفيّة.

الكتابة/الفن فعل المقاومة:

إن الكتابة عند "بلانشو" شكل من أشكال المقاومة ومواجهة العبث واللاجدوى من خلاله يستطيع الإنسان أن يجد المعنى حتى في أحلك الظروف .ففي محاولة لترميم الذات والتصالح معها عادت "ميّارى" إلى الأدب لتنكشف لها حقيقة عالم. كانت تعيشه لكنها تجهل حقيقته. وجدت في رواية "ألبرتو مورافيا" ما جعلها تعيد تشكيل العالم وفق نظرة بعيدة عن عالم المادة الذي سجنت فيه نفسها "عثرت على رواية السأم لألبرتو مورافيا كان العنوان مغريا...وكانت رواية السأم بمثابة العيادة الذاتيّة لها"14

 لقد شكّل الأدب/الفنّ عند "ميّارى"علاجا وترياقا للسأم ووقوفا  في وجه بشاعة العالم استعدادا لإعادة تشكيله بعيدا عن منطق "المال" الذي انخرطت فيه .ولذلك كانت "تردّد قولا لفيلسوف يروق لها"إنّ الأدب هو الوجه المشرق من الكارثة" 15

واستحال الاعتكاف في المرسم عند "عبد الباقي" سبيلا  لإعادة تشكيل العالم والنظر إليه نطرة مغايرة  متعالية  على الجموع والحشود. فلئن قضى الحبّ الذي انطلق "حلوى" لذيذة وانتهى "جمجمة" باردة، أن يفترق "عبد الباقي" و"ميارى" في لحظة فارقة باعت فيها "ميارى" المشاعر  بالأساور، فإنّ الفنّ -والفنّ وحده- جمعهما في لحظة إنسانيّة خالدة تؤكد "الإنشاء الفنّي للكون "في مواجهة الإنشاء البشري للبشاعة والموت والقتل.فهل جسّد الخليلان  بافتراقهما عاطفة واجتماعهما مشروع أم الزين الفلسفيّ الذي  ترى فيه أنّه لم يعد للإنسان من وجود في هذا الكون المليء بالأدران إلا أن يسير مكرها أو مجبرا  "نحو انتماء جمالي إلى العالم"16

الكتابة الشذريّة:L’écriture fragmentaire

إنّ الكتابة الشذريّة تقنية في الكتابة توظّف كلّ الأجناس الأدبيّة في سعي واضح ومقصود، وواع  إلى التخلّص من أسر أيّ نظام مغلق ورتيب. كلّ ذلك من أجل التشكيك في كلّ يقينيات الأدب17 وقد لقي هذا الجنس الأدبي شهرة واسعة خاصة مع "نيتشه" في القرن التاسع عشر ومع  موريس بلانشو" في القرن العشرين.و من خصائص الكتابة الشذرية أنّها تتخذ مسافة من المعاني والقيم التي انتصبت حقائقَ غيرَ قابلة للدحض فتخضعها لفحص نقدي جديد بغاية تحريك الفكر وخلخلة يقينياته وعاداته. وما  قد يلمسه القارئ في هذه الرواية من تداخل المشاهد وعلامات البؤس التي تسّاقط على القارئ زخّات وأشلاء غير قابلة للجمع هو شكل من أشكال الرفض و محاولة لجمع الشتات  بغاية كشف حجم الكارثة. و تتحوّل الكتابة،في الغالب، إلى تقطيع وتجزئة وتركيب للمختلف في عملية أشبه بما جمعه بيكاسو في  لوحة غرنيكا18 لإدانة بشاعة البشر.

استحالت رواية "طوفان من الحلوى في معبد الجماجم" لوحة سرديّة فلسفيّة تصوّر مشاهد مروّعة من القتل والدمار .ميزتها أنّها مضمّخة في بشاعة تونسية مكوّناتها رؤوس مقطوعة  تتطاير في جبل مغيلة ودماء السياسيين وجثث العسكريين  والأمنيين."وتستأنف الرؤوس المذبوحة الحديث بعيدا عن عيون الإرهابيين وعن الدولة..هناك في رواية تحتضن الضحايا دون أيّ شروط مسبقة في انتظار مذبوحين جدد سيكون هذا البهو مسكنا لحكاياتهم التي منعوهم من حكيها بالقتل 19

وتقتضي "الكتابة الشذرية" المرواحة  بين الأجناس. فقد يوقف تدفّق السرد وانسيابه" الشعر

صدأ قديم وأفعوانة والماء صار طفلا

غلّقت كفّيها على عطر سافر

ومضت تأكل الحروف.. نهم في القلب

وفي الأفق  قمر  وكان يتشقّق20

ثم يستحيل الحوار  إلى ما يشبه التأملات الفلسفيّة

إيّاك أن تغضبي الخيال,,,سيأكلك,,سيقطّعك قطعا

أجابت مفزوعة:وماذا نفعل بهذا الفجر الذي جاء متأخّرا؟

ردّ موكوكا:تراجعي عن هذا السؤال

قاطعته في رهبة:وهل جاء الله هذا اليوم؟

ردّ غاضبا:اخرسي فالفجر لا يحبّ المزاح21

في صفحة واحدة راوحت "أم الزين" بين الشّعر والسّرد والتأمّل الفلسفيّ في سعي واع ومقصود إلى الردّ على البشاعة ومشاهد القتل والعدميّة بإعادة تشكيل واقع مغاير يكسر الطمأنينة السائدة عبر كتابة شذرية تؤلّف بين المختلف وتكسر التنميط والمنطق السائد.وعلى هذا النحو تستحيل الكتابة إدانة و إعلان رفض وكفر بالسائد المتواضَع عليه بالصمت فهل كانت أمّ الزين بكتابتها الشذريّة تقتفي خطى" فيرناندو بيسوا في كتابه" اللاطمأنينة" الذي أراد أن يكشف "لا واقعية الواقع وواقعية الأحلام والأوهام"22

على سبيل الخاتمة

قد يجنّ القارئ وهو يفتح صفحات رواية"طوفان من الحلوى في معبد الجماجم" وحيدا  لأنّها متاهة سرديّة فلسفيّة فكريّة جنّدت لها الروائية كلّ معارفها وخبراتها الجماليّة. وكلّما ظنّ القارئ أنّه وصل إلى النهاية وجد نفسه في المكان الذي انطلق منه "سيزيفا" يدفع حجر الوهم. كلّ الحكايات الصغرى داخل الرواية مفتوحة لا تريد أن تنتهي أو لا تريد لها صاحبتها أن تنتهي لتبقى على أكثر من احتمال. يستحيل الطوفان رمالا متحرّكة تبتلع النافذ إليها وتنزل به إلى قاع العدم . تتطاير "ميارى"المسعدى لتراقص "ميارى" جديدة سرقت منها نار الحلم  والتلوّن ويبني عماد مرسما لا عماد له قُدَّ من وهم الفاعلية. ظنّ أنه حاكم أمره وإذا به مفعول به..كلّ شيء قابل للمسخ في هذا العالم... الهجانة فيه تشوّش الرّؤية والرّؤيا وتلفّها بضباب الخوف والقتل والترويع.."عالم جمالي"جديد يتشكّل على أنقاض عالم واقعي معيش يتهاوى يقع فيه الانتقال  من طمأنينة  النظرة الصامتة اللامبالية إلى حيرة السؤال.  والتأمّل...من أين تجمّعت كلّ هذه المكوّنات: الرؤوس المقطوعة غدرا  واللوحات الحالمة  والشعر الفارّ من قافيته  والحبّ الموؤود على مقصلة الانتهازيّة، والأحلام المجنّجة المحلّقة بعيدا عن الجبال حيث الموت المنتظر  ..... وحده الموت يبقى حقيقة ثابتة تبرر "اللاطمأنينة" !!!... لا حقيقة  في هذا العالم إلا حقيقة الموت كل شيء ينهار في هذا الطوفان ولا تيقى فيه إلا الجماجم شاهدة على مرور كائن في زمن مّا...لم يبق إلا الفنّ شاهدا على هذا الدمار والقتل والإرهاب...من القبح ينبلج الجمال ومن سردية العدم المنثورة في الشوارع تنبت أزاهير الحب والفنّ والجمال "سأنصف هؤلاء الرعاة بتحويلهم إلى أعمال فنيّة ستبهر العالم وستخلّد هذه الرؤوس المذبوحة فيما وراء جبل الشعانببي المتراكم حول نفسه مثل كابوس لا ينتهي 23

إذا كان الموت هو الحقيقة الحقيقية الثابتة في هذا الكون، فإنّ الفنّ بأشكاله التعبيرية المختلفة ينتصب حقيقة أخرى ثابتة مناوئة ....كلّ ما في الكون إلى زوال إلّا الفنّ يظلّ عصيّا على الموت ثابتا شامخا متطاولا يجمّل القبيح ، ويبدّد آثار وحشيّة الإنسان.

إنّ  الكتابة ،في جوهرها و تشكّلها ومرماها، مشغل فلسفي وفكري جنّد له "بلانشو" وغيره من الفلاسفة  كلّ حياتهم. وانتهوا إلى حقيقة ثابتة مفادها أنّ الكتابة بما هي تسآل، تراقص الموت ،وتلاعبه فلا يطالها وإن أفنى صاحبها.

وفي هذه الرواية  جرّبت "أم الزين بن شيخة " كلّ أشكال الكتابة :كتابة الموت /كتابة الكارثة والفاجعة/ الكتابة الشذرية، وأطلّت على التخوم وذهبت بالكلمة إلى أقصاها المتوحّش، لتبدع نصّا  قد يكون جوازها إلى" الانتماء الجمالي للكون".

اختارت "أم الزين بن شيخة" أن تنزّل على القارئ "طوفانا من الحلوى في معبد الجماجم" وأظنّه رأى بعينيه ،وقرأ ،وسمع "طوفانا من الجماجم في معبد الحلوى" !!!فهل كانت الرواية طوفانا من الخيبة والمرارة لرؤية ثورة أمل تتحوّل بانتهازيّة، إلى مقصلة تقطع الرؤوس وتكمّم الأفواه....؟؟؟؟

محمد صالح مجيّد/كاتب تونسي

الهوامش

1 انظر ألبير كامي ديفيد شيرمان. ترجمة عزّة مازن- المشروع القومي للترجمة-آفاق للنشر والتوزيع

2المصدر نفسه

3كمال الحاج:الموسوعة الفلسفيةالجزء10ص60

4انظر حوار مع الفيلسوفة أم الزين بن شيخة   https://mana.net/18170/

5  أم الزين بن شيخة:طوفان من الحلوى في معبد الجماجم.الدار العربية للكتاب2021

6جرحى السماء بيروت دار جداول2012

7لن تجنّ وحيدا بيروت منشورات ضفاف2015

 8 انظر les symboles autour de la mort"   https://galeries.limedia.fr/histoires/les-symboles-autour-de-la-mort/ بتاريخ 18/01/2025

9 طوفان من الحلوى في معبد الجماجم الدار التونسية للكتاب 2021 ص75

10انظر Gallimard 2014 Blanchot Maurice :L’écriture de désastre

11للتوسّع انظر .Blanchot Mauric :L’espace littéraire Gallimard2018

12طوفان من الحلوى ص61

13   م نفسه ص201

  م نفسه ص105-10614

15  طوفان من الحلوى ص118

[1]16انظر أم الزين بن شيخة:الفنّ والمقدّس: نحو انتماء جمالي للعالم. بيروت مؤمنون بلا حدود للنشر2020

. L'écriture fragmentaire est une technique d'écriture érigée en éthique ; pratiquant tous les 17genres, elle échappe à tout système et remet en cause toutes les certitudes de la littérature 

http://litterature.ens-lyon.fr/litterature/dossiers/poesie/ecritures-fragmentaires/pierre-garrigues

18غيرنيكا: لوحة لبيكاسو الرسام الفرنسي( 1881/1973)صوّرت بشاعة الحرب

19طوفان من الحلوى ص75

20المصدر نفسه ص44

21المصدر نفسه ص45

22للتوسع انظر مقال  محمد الحجيري "ظاهرة كتابة الشذرات من نيتشه إلى كانيتي"

https://www.aljarida.com/articles/1462284509685419700624

23طوفان من الحلوى ص146

 

 


مشاهدات 69
الكاتب محمد صالح مجيّد
أضيف 2025/03/11 - 2:13 PM
آخر تحديث 2025/03/12 - 2:00 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 297 الشهر 6115 الكلي 10567064
الوقت الآن
الأربعاء 2025/3/12 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير