الشَّاعــر الذي لَعنَ مَن يطبع ديوانــه
محمد عبد الشَّافي القُوصـي
في حقبة الثمانينيات، ربطتني علاقة وطيدة بشيخ الناشرين المصريين الحاج "محمد مدبولــي"؛ لمعرفتهِ الواسعة بالأنساب والأحساب وتآريخ الشوارع والميادين؛ فعندما أتجوّل معه في شوارع القاهرة العتيقة، كان يقول لي: هنا كان يسكن شاعر البؤس، وهذه حارة الشّاعر الذي دفن ديوانه! وهذه مدرسة الشاعرة التي أحرقتْ قصائدها! وذات مرة، أشار إلى أحد المقاهي التاريخيَّة بميدان باب اللُّوق، وقال لي: هذا المقهى كان يجلس عليه الشّاعر الذي لَعنَ مَنْ يَطبع ديوانه!
فاندهشتُ مِن كلامهِ، وسألته: مَن هو الشّاعر الذي لَعنَ مَنْ يَطبع ديوانه!
فقال: إنه الشّاعر (علــي الليثـي) الذي كنتُ أتمنّى نشر قصائده ... فحذّرني الناسُ!
ثمَّ جذبني نحوه، وقال: اللّيثي أحد الذين أدركتهم حرفة الأدب؛ فلم يُكمِل تعليمه بالأزهر، وعاش جوّالاً في بلاد الله. وكان -يرحمه الله- أديبًا موسوعيًّا حاضرَ الجواب، فكهَ الحديث، مُحبَّبًا إلى القلوب، إذا عرفه إنسانٌ تعلَّقَ به، لدرجة أنَّ الإمامَ "السنوسي الكبير" لمَّا قدم إلى مصر قاصداً الحج، اتصل به وحجَّ معه، ثمَّ استصحبه إلى "جغبوب"، ولمّا انتقل الإمامُ إلى ربّه، عاد "اللّيثي" إلى مصر فاتصل بوالدة "عباس باشا"، فجعلتْه شيخًا على مجلس "دلائل الخيرات" عندها، وقد أدناه الأمير "أحمد باشا رفعت" بن "إبراهيم باشا الكبير"، فوثَقَ به وأَطْلعه على خِزانة كُتُبٍ عنده، فاستفاد منها، واستطاع بذكائه، ولُطف فكاهته أن يصل إلى مركز مرموق في عالَم السياسة والأدب، وقد لمع نجمه في بلاط الخديوِ إسماعيل، ثمَّ في بلاط ابنه توفيق، إذْ أصبح نديمًا لكليْهما، كما مَثَّل المشاركةَ المصرية في اجتماع الجمعية العلمية الشرقيَّة بفيينا.
وبسبب قربهِ من الخديوِ قصدَه الناسُ في الشفاعات عند الكبراء، ونفع اللهُ به خَلقًا كثيراً مِن البسطاء وأصحاب المظالم ... وحين اندلعت الثورةُ العرابية (1881م) انضمَّ إلى الثوّار، وانقطع عن الخديوِ توفيق، ولكن هزيمة عرابي، ودخول الإنجليز مصر؛ أعاداه إلى رحاب القصر بقصيدة اعتذاريــة، يقول في مطلعها:
كلُّ حال لضدِّه يتحوَّل فالْزمِ الصبرَ إذْ عليهِ المعوَّل!
فصفَح عنه "الخديو" ولم يُؤاخذْه، بلْ زاد في تقريبه وإكرامه، لا سيّما بعد أن بنَى قصرَه بحلوان، وصار يُسافر إليه كلَّ أسبوعين في سفينة بخارية لزيارة الشيخ اللّيثي في ضَيعته بشرق "أطفيح" حيث يتناول الطعامَ عنده ويُقيم يومًا في ضيافته، وهو شيء لا يفعله مع غيره.
كان الشيخُ علـي الليثـي ( 1830- 1896م) مِن أدباء مصر وفضلائها، قصد المثقّفون ندوته الأدبيّة في عزبته، فكان يُقبِل عليهم بكرَمه ولطائفه، ويُؤنسهم بطرائفه ... ولم يزلْ كذلك حتى تُوفّيَ عام ١٣١٣ﻫ عن سِنٍّ عالية، بعدما نال من العزِّ والجاه ما لم ينلْه غيرُه.
مدرسة الندمان الشِّعرية
يقول علماءُ النفس: "المنادمة" فن دقيق يعتمد على مواهب خاصة، ويحتاج إلى لباقةٍ وتفطُّن إلى مواطن النكتة وموقعها من النفوس، وتفرُّس فيما يطيب من القول، ويلذّ لسامعه، هذا إلى سرعة البديهة، ومعرفة الطبائع واختلاف الأخلاق، وتمييز كل موقف مِن صاحبه، والإلمام بما يَهشُّ له السامع من ألوان الفكاهة.
يقول الأستاذ/ عباس العقَّـــاد في كتابه "شعراء مصر وبيئاتهم": لا نحسب أنَّ مِن شعراء الجيل الماضي شاعرًا يُمثّل مدرسة الندمان كما يمثّلها الليثي، وقد ارتقى في هذه الصناعة حتى نادم "إسماعيل" "وتوفيقا"، وقد بلغ مِن شَغف "إسماعيل" به أن أعدَّ له قاعةً خاصة بديوانه يجلس بها كأنه أحد رجال القصر الذين تُوكَل إليه أعمال، وكان "توفيق" ينزل بضيْعتهِ في حلوان لمنادمته، وإيثارًا لمفاكهته ... فهو شاعر المنادمة وشاعر الواجبات الاجتماعية، وفي هذا الطراز من الشّعر لا يحرص الشَّاعر على الإتقان والإحكام، إذْ لم يكن جمهوره يتطلب منه ذلك، بلْ كان يكفيه قدرته على ارتجال أبيات في المناسبة العارضة .. ولم يكن ذلك بالشّعر الذي تحتفل به الحياة فتحرص على بقائه، بلْ إنَّ الشَّاعر نفسه لعن مَن يَطبع ديوانه!!
هذا؛ وقد ترك "الليثي" ديوان شِعر ضخم لدى صهره الأستاذ "محمد سعودي" الخبير، ولكنه أبى أن يطبعه لِعلم أهله وخاصته بأنَّ الشَّاعر لَعن مَن يَطبعه! ولعلَّ "الليثي" فعل ذلك تحرُّجاً من نشر ما عسى أن يكون قد تورّط فيه كشأن أكثر الشعراء مِن دعابة، أوْ غلوّ في مديح أوْ ذم أوْ نحو ذلك، فلقد كان في الرجل تُقية وورع شديد. وإنَّ جُل شِعره يميل إلى الحكمة واستخلاص العِبر ... يقول في قصيدة (أيام أُنس):
لا تُؤخِّر سـرور يـومٍ لـيـــومٍ |
|
رُبَّ يـومٍ يجـيء غـيرَ نظير |
هذا، وله حظ وافر من شِعر المدائح، فلقد اصطفاه "إسماعيل"، وخلع عليه لقب "شاعر الخديو" ولازمه ونادمه، كما أدناه "توفيق" وأحلَّه مكانةً من نفسه، وقد دعاه ذلك إلى أن ينظُم فيهما مدائحه آيةً على ولائه ودليلاً على وفائه، وكان "الليثي" حريصا في هذه المدائح على أن يكسوها حلَّةً من الروعة والجمال! وللشَّاعر قصائد كثيرة في الرثاء الذي اختصَّ به الأمراءَ والأميرات، فعندما تُوفّيتْ الأميرةُ زينب، رثاها بقصيدة بعنوان (شِيَم الليالـي) قال فيها:
كيف اغتـررتَ وقد توارت زيـنبُ؟ |
|
بنتُ الخديو مليك مصرَ أبي الفدا |
طرائف اللّيثي ونوادره
لا يزال الناسُ يَستدعونَ نوادر اللّيثي ودعاباته كلما تذكّروا الزمنَ الجميل، ومِن ذلك:
- أنه مرَّ به أحد رجال القصر فحيّاه تحيةَ الغربيين بخفض رأسه، فلم يرقه ذلك فهزَّ رأسه كمَن يقول: لا. فشكا الأول للخديوِ زراية "الليثي" به، فلمَّا سأله الخديو عمَّا صنع معه؟ قال: يهزّ رأسه كأنه يقول: تناطحني. فقلتُ له: لا.
- أيضاً: لمَّا أمر "إسماعيل" أن يُكتَب على حجرات القصر لافتات تشير إلى وظيفة مَن فيها أشار "المهردار"، أحد كبار رجال القصر- بأن يُكتَب على حجرة الشعراء التي كان "الليثي" بها: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ}، وقد سأل اللّيثي عمّن أشار بذلك؟ قيل له: إنه "المهردار".
فأراد أن ينتقِمَ لنفسه فانتهز فرصة جلوسه مع الخديو، وحضور المهردار، وقال للخديوِ: لقد وقعتْ لي اليوم حادثةٌ عجيبة، فقال: ما هي؟ قال: صِغتها زجلا. فقال: ما هو؟ قال:
لي طاحونه في البلد ... غِلبتُ منها وعقلي دار
علّقتُ فيها الثور عصى ... فعلّقتُ فيها "المهردار" !!
فلم يتمالك "الخديوِ" نفسه من فُرط الضحك والقهقهة حتى سقط على الأرض!
يرحم اللهُ "الليثي" الذي أطربَ الناسَ، وما زال يُطربهم، وقَلَّ أن يوجد مثله، أوْ يجتمع لإنسان ما اجتمع له من الورع والتقوى، وقد ظل "عالِماً" من علماء الأزهر، لم تجرح صناعة الفكاهة من كبرياءه، ولم تتدل به إلى ما يتدلَّى إليه المضحكون والمُتفكّهون.
رحِمَ اللهُ ذلكَ "الشَّاعر" الفذ، خفيف الروح، عذب الحديث، سريع البديهة، و"سيّد الندمــاء"!
* * *