حين تتكلّم الأرواح بصمت
نوري جاسم
حين تتكلم الأرواح بصمت نجد أنفسنا أمام عالم خفي لا تراه العيون ولا تدركه الحواس لكنه حاضر بقوة في كل لحظة تنبض فيها القلوب بحب الله وتتوهج فيها الأرواح بنور التصوف والعرفان الكسنزاني القادري، إنه عالم السر الذي تنطلق منه الإشارات وتنهمر منه الأنوار فتغمر كل سالك في درب المحبة بنفحات قدسية تهز الكيان وتبعث الطمأنينة وتوقظ فينا شوق اللقاء، وهنا لا مكان للكلمات لأن الحديث يصبح مجرد صدى لحقيقة أعظم من أن توصف وأسمى من أن تحاط بها العقول فكل من ذاق عرف ومن عرف صمت لأن البيان في حضرة الجمال عجز وكل وصف مهما سمت بلاغته يظل قاصرًا عن الإحاطة بتلك التجليات التي لا يدركها إلا من سار على درب الفناء في المحبوب فذابت أنانيته وانمحى وجوده امام وجود الله، وفي هذا المقام ترتفع الحجب وتسقط المسافات ويصبح السالك مرآة تعكس نور الحضرة المحمدية والفيض الكسنزاني القادري المتجدد الذي ينهل منه كل مريد يبحث عن الحقيقة في ظل الطريقة العلية القادرية الكسنزانية التي جعلت من الحب وسيلة، ومن المعرفة غاية، ومن الخدمة سبيلًا نحو الترقي في مدارج السالكين تحت راية الشيخ والمربي الكامل الذي يجسد قيم المحبة والسلام والتسامح في عالم مزقته الصراعات وغابت عنه معاني الروحانية الأصيلة، إن الطريقة الكسنزانية ليست مجرد مدرسة روحية بل هي دعوة للعودة إلى الفطرة النقية والإنسانية السامية عبر تهذيب النفس وتزكية القلب وصقل الروح لتكون وعاء لنور الله وساحة لتجليات محبته وكل من يدخل هذا الباب عليه أن يخلع نعليه عند عتبة العشق، ويطهر قلبه بماء الصدق حتى يصبح جديرًا بحمل أمانة السر ومؤهلًا للسير في درب المجاهدين الذين باعوا أنفسهم وأرواحهم لله فكان جزاؤهم أن فتح لهم باب القرب وأذن لهم بالدخول إلى رحاب المحبة المطلقة، وفي هذا الطريق يقاس التقدم بكثرة الأوراد والعبادات وصفاء النية وصدق التوجه والتخلي عن الأهواء والتمسك بحبل الشيخ المربِّي الذي هو واسطة الفيض والباب إلى الحضرة المحمدية، ولذا فإن كل سالك في هذا الطريق يعرف أن الصمت في حضرة الشيخ كلام، وأن نظرة منه قد تختصر آلاف الأوراد وأن لمسة من يده قد تشفي القلوب المريضة وتفتح أبواب الفتح لمن أخلص وتوكل وسلم وفي هذا المقام يصبح الصمت أبلغ من الكلام ويصبح الفناء في المحبوب هو البقاء الحق حيث تتلاشى الحدود وتذوب الفواصل ويتحول العشق إلى كيان نوراني يتوهج في أعماق الروح فيملأها بالسكينة ويحيطها بالأنس حتى يصبح السالك شاهدًا على تجليات الحق في كل شيء فترى في نظراته نورًا وفي كلماته سرًا وفي صمته كلامًا، ومن هنا نفهم كيف أن الأرواح تتحدث بلغة لا تفهمها العقول، لكنها تصل إلى القلوب بلا وسيط فتزرع فيها اليقين وتشعل فيها الشوق وتحملها على جناح العشق إلى حيث لا زمان ولا مكان حيث مقام القرب الذي لا يناله إلا من أحب بصدق وسار بإخلاص وفني في حضرة المحبوب حتى صار هو وهو عين الحق في تجلٍّ لا يدركه إلا من ذاق فتحدث بصمت وسمع بلا أذن ورأى بلا عين وعاش في حضرة لا يدركها إلا العارفون، وصلى الله على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ...