العطاء والحياة
ثامر مراد
العطاء هو ذلك النهر الذي لا ينضب، والسحابة التي تمطر خيرًا على الارض فتنبت الامل والرخاء. انه سلوك نبيل يعكس جوهر الانسانية، ويوكد ان قيمة الانسان لا تكمن فيما يملك، بل فيما يعطي. فكما يروي الغيث الارض العطشى، فيحييها بالخير والجمال، فان العطاء يمنح القلوب الحياة، ويمسح عن الارواح غبار الاحزان، ويضيء دروب المستقبل بالامل. ان عبارة “كُنْ بِالعَطَاءِ كَغَيْثٍ زَادَهُ شَرَفًا اَنْ يَمْلَاَ الاَرْضَ بِالْامَالِ” تجسد فلسفة العطاء في اسمى صورها، اذ تشبه الكريم بالغيث، الذي لا يقتصر عطاوه على فية محددة، بل ينهمر على الجميع دون تمييز، لينبت الخير في كل زاوية من زوايا الارض. فما اروع ان يكون الانسان سببًا في زرع الامل في قلوب الاخرين، وان يكون جوده وبره وسيلة لبعث الحياة من جديد في نفوس فقدت الرجاء! العطاء ليس مجرد تقديم المساعدات المادية، بل هو مفهوم اوسع واعمق، يشمل كل ما يمكن ان يهبه الانسان لغيره من مشاعر نبيلة، ووقت ثمين، وجهد مخلص. فالكلمة الطيبة عطاء، والابتسامة عطاء، والمساندة في الاوقات العصيبة عطاء. وفي كل مرة يمنح فيها الانسان شييًا من روحه للاخرين، فانه يغدو اكثر سموًّا ورقيًّا. يُقال ان اعظم العطاء هو العطاء بلا مقابل، وهذا هو جوهر السحابة التي تمطر دون ان تنتظر شكرًا، والشمس التي تضيء دون ان تطلب ثناءً. فالعطاء الحقيقي نابع من القلب، يُقدَّم بدافع الحب والرحمة، لا بدافع المصالح او الرياء. كما ان الغيث يزداد شرفًا بقدر ما يغمر الارض بالخيرات، فان العطاء يرفع من شان الانسان ويمنحه مكانة سامية في الدنيا والاخرة. ففي الحياة، يحظى الكريم بحب الناس واحترامهم، ويصبح ذكره طيبًا في المجالس، ويجد في عطايه لذة تفوق اي متعة مادية. اما في الاخرة، فقد وعد الله الكريمين بمضاعفة الاجر والثواب، فقال سبحانه: “مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ اَضْعَافًا كَثِيرَةً” (البقرة: 245) .من اجمل ما في العطاء انه لا يقتصر اثره على المعطي فقط، بل يمتد ليغير حياة الاخرين. فكما يبعث المطر الحياة في الارض الجرداء، فان العطاء يمنح المحتاجين فرصة جديدة للعيش بكرامة. قد يكون الانسان غارقًا في الياس، فياتيه عطاء غير متوقع فيغير مسار حياته، فيستعيد ثقته بنفسه وبالمجتمع، ويجد في قلبه دافعًا للمضي قدمًا. العطاء ليس فقط مساعدة مادية، بل قد يكون كلمة مشجعة، او يدًا تمتد لانقاذ غريق، او قلبًا يحتوي الام الاخرين. وكم من شخص كاد ان يسقط في ظلام الياس، فجاءه عطاء صادق ليعيد اليه النور، ويفتح امامه ابواب الامل! العطاء اشكال متعددة، كلها تحمل في طياتها معاني الرحمة والمودة، ومنها: العطاء المادي: وهو تقديم المال او الطعام او الملبس لمن يحتاجه، وهو من ابسط صور الكرم. العطاء المعنوي: مثل تقديم الدعم النفسي للاخرين، ومواساتهم في ازماتهم .العطاء العلمي: كتعليم الناس ونشر المعرفة، فهذا من اعظم انواع العطاء لانه يترك اثرًا مستدامًا. العطاء بالوقت: فالوقت اثمن ما يملك الانسان، ومنحه للاخرين يدل على حب حقيقي وايثار نبيل .ليس كل عطاء محمودًا، فهناك من يعطي لاجل المصلحة، وهناك من يتصدق ليراه الناس، وهذا لا ينال الشرف الحقيقي للعطاء. فالعطاء النقي هو ما يكون خالصًا لوجه الله، لا ينتظر صاحبه مردودًا دنيويًا، بل يكفيه شعوره بانه اسعد انسانًا، وازال همًّا، وزرع املًا. لكي نكون كالغيث، يجب ان نتبنى العطاء كاسلوب حياة، وليس كفعل عابر نقوم به في المناسبات فقط. يجب ان نكون كرماء في مشاعرنا، متفهمين لاحتياجات الاخرين، متطوعين لخدمة من حولنا. كما ينبغي ان نودي الخير خفية، بعيدًا عن الاضواء، وان نجعل نيتنا خالصة لله، لا نبتغي بها الا مرضاته. في النهاية، العطاء ليس مجرد فعل، بل هو فلسفة تعكس نقاء القلب، وعلوّ النفس، وسخاء الروح. فليكن كل واحد منا غيثًا يروي ارواحًا عطشى، ويبذر الامل في القلوب، وينير الدروب لمن يحتاج الى بصيص نور. وليكن شعارنا في الحياة: “العطاء هو سر السعادة، والكرم هو طريق العظمة.»