الروح الخنثى.. جدلية التناقضات في قصيدة 'زهرة سوداء' للشاعر أحمد عبد الحسين
عادل الثامري
تعكس قصيدة زهرة سوداء للشاعر أحمد عبد الحسين التوترات الوجودية التي يعيشها الإنسان في محاولته لفهم ذاته وعلاقته بالعالم. باستخدام لغة غنية بالرموز والاستعارات، يتناول الشاعر موضوع الروح باعتبارها كيانًا ملتبسًا، يتأرجح بين التناقضات والمتضادات. يطرح النص تساؤلات جوهرية حول الذاكرة والنسيان، الوحدة والانفصال، والمعنى والعبث، ما يجعله عملًا مفتوحًا على تأويلات متعددة تتجاوز الإطار الشخصي لتلامس قضايا فلسفية وإنسانية أوسع.
تُشكّل فكرة "الروح خنثى" محورًا اساسيا في القصيدة، اذ يعكس هذا التصور ازدواجية الروح وتناقضاتها الداخلية. فالروح، وفقًا للشاعر، ليست كيانًا ثابتًا أو متجانسًا، بل هي كائن متحول يجمع بين الأضداد، بين الذكورة والأنوثة، النور والظلمة، اليقين والشك. تعبر "الروح الخنثى" عن التباس الهوية الروحية، اذ لا يمكن حصر الروح في ثنائية قطعية، بل هي كيان متحوّل يتجاوز التصنيفات التقليدية. إن هذا الطرح يزعزع المفاهيم السائدة عن الهوية الروحية ويضع القارئ أمام إشكالية فلسفية معقدة تتمثل في التداخل بين الأضداد داخل النفس البشرية.
يتجلى هذا الالتباس أيضًا في العلاقة بين الروح والجسد، اذ يطرح الشاعر جدلية البحث عن الروح عبر نقيضها، أي الجسد، في إشارة إلى أن الإنسان لا يستطيع فهم طبيعته الروحية دون المرور بتجربة الجسد ومادياته. يقول الشاعر: " فصرت أطلب الروح بنقيضها، والجسد بلطائفه المخبوءة فيه". هنا، تتجلى ثنائية الجسد والروح بوصفها علاقة جدلية معقدة، إذ لا يمكن الفصل بينهما دون أن يفقد الإنسان وعيه بذاته. كما أن في الفجر امتزاجًا بين الليل والنهار، كذلك في الروح مزيجٌ من الصفات المتعارضة التي تساهم في تشكيل هويتها الغامضة، يقول الشاعر:" بمقدار ما في كلمة الفجر من ليل ونهار." إن هذا التصور يضع الروح في منطقة وسطى بين الواقع والمجهول، ما يجعلها كيانًا مائعًا لا يمكن إدراكه إلا عن طريق أثره أو غيابه.
علاوة على ذلك، فإن هذا الاضطراب في فهم الروح ينعكس على وعي الإنسان بنفسه، اذ يكتشف الشاعر، في لحظة إدراك مفاجئة، أن روحه ليست امتدادًا له، بل هي نقيضه. يقول: "تذكّر فجأة أنه هو وروحه شيئان متناقضان، وأنهما معًا فائضان عن حاجة العالم." تعكس هذه الجملة لحظة انكشاف وجودي، يتحول فيها الإنسان من كائن يسعى إلى فهم روحه إلى كائن مغترب عن ذاته، يشعر بأنه فائض عن حاجة الوجود. وهذا الإدراك، الذي يتبين في جلسة خمر وتأمل، يقود إلى قلق وجودي، إذ يصبح الفرد في مواجهة مأزق مزدوج: روح لا تنتمي له بالكامل، وعالم لا يحتاج إليه. ومن ثم تتحول الروح إلى مصدر للاغتراب والتمزق الداخلي، ما يجعلها عبئًا إضافيًا على صاحبها بدلًا من أن تكون ملاذًا أو خلاصًا.
رمزية الزهرة السوداء
تمثل الزهرة السوداء في القصيدة رمزًا جوهريًا يعكس انهيار الروح واستحالة تحقيق الانسجام بين الذات والآخر. فالزهرة، التي ترتبط عادة بالجمال والرقة، تأتي في هذه الصورة مشحونة بالدلالة المعكوسة، إذ تتحول إلى أداة عنف وفقدان، كما في المشهد الذي يصوره الشاعر: "الشاب الهزيل الذي لطم وجه حبيبته بزهرة سوداء، وحده يدرك أن مأتمه لن ينقضي ما داما – هو وإياها – اثنين." هنا، تصبح الزهرة فعلًا رمزيًا يجسد القطيعة النهائية بين شخصين، اذ لا يمكن للروح أن تندمج مع روح أخرى، بل تبقى محكومة بالانفصال والتوازي، كما يتجلى في: "وحين، ضربتيْ مجذاف في نهرين لا يلتقيان". يمتد هذا المعنى إلى دلالة أوسع، إذ تمثل الزهرة السوداء انهيارًا داخليًا يعكس حالة التمزق الروحي التي يعيشها الإنسان. حين تسقط هذه الزهرة في الوحل، تصبح علامة على فساد الروح وتآكلها: "وهكذا، فالزهرة السوداء التي سقطت في الوحل صارت علامة على انهدام الروح."هذا الانهدام لا يقتصر على علاقة حب فاشلة، بل يمتد ليشمل الوجود كله، اذ يصبح الإنسان حبيس عزلته، غير قادر على تجاوز ذاته أو التواصل مع الآخرين.
وفي ظل هذا الإدراك العميق لاستحالة التواصل، يعود الشاعر إلى سؤال يطارد روحه، سؤال يحاول عبره فهم مصير أولئك الذين، مثله، انتهوا إلى هذه العزلة الوجودية: " أكرر سؤالي، وفي خاطري أسماء كل أولئك الذين انتهوا إلى هذا الحطام الشفيف." هنا، لا تقتصر المأساة على الشاعر وحده، بل تمتد إلى كل من اختبر هذا الاغتراب، إلى كل من سعى وراء الحقيقة ليجد نفسه أمام حطام روحي لا يمكن إصلاحه. وبهذا، تصبح الزهرة السوداء أكثر من مجرد صورة رمزية، بل هي خلاصة تجربة إنسانية تتجلى في انكسار المرايا، في ضياع المسار، وفي الإدراك المتأخر بأن الروح قد تكون عبئًا لا يمكن الفكاك منه.
التصوير والاستعارات
تعتمد القصيدة على صور واستعارات قوية تمنحها عمقًا دلاليًا وتكشف عن طبيعة الصراع الوجودي الذي يعيشه الشاعر. تتجلى هذه الصور في مجموعة من التناقضات الحادة التي تعكس اضطراب الروح وانكسارها، اذ يستخدم الشاعر الأضداد ليعبّر عن حالة التشظي الداخلي. ومن أبرز هذه الصور "الروح خنثى"، التي تشكّل استعارة تكثّف المعنى الوجودي الملتبس، إذ تدمج بين الذكورة والأنوثة، بين الثنائية التقليدية التي يتم تجاوزها لصالح هوية متغيرة ومائعة. هذه الصورة لا تقتصر على بعدها الجسدي، بل تمتد إلى المستوى الفلسفي، فهي تعبر عن غياب التصنيف القطعي للروح، ما يجعلها كيانًا خارج التعريفات المتعارف عليها.
يستخدم الشاعر أيضًا صورة "الروح – القنديل الذي من رآه لم ينم"، وهي استعارة بصرية تعكس الإضاءة الداخلية التي تمنح الوعي ثقلًا وجوديًا. القنديل هنا ليس مجرد مصدر للنور، بل هو رمز للمعرفة التي تمنح صاحبها قلقًا لا ينتهي. من يدرك جوهر الروح يصبح أسيرًا لهذا الإدراك، غير قادر على العودة إلى غفلة الجهل. هذه الصورة تستدعي فكرة المعرفة الملعونة. إلى جانب هذه الاستعارات، تأتي صورة "الشاب الهزيل الذي لطم وجه حبيبته بزهرة سوداء"، وهي من أكثر المشاهد دلالة في القصيدة. اللون الأسود، الذي يرتبط بالموت والحزن، يعمّق دلالة القطيعة، بينما فعل اللطم يعكس الانفصال العنيف بين الروحين، وكأن الحب ذاته قد تحوّل إلى مأتم دائم.
وتكتمل هذه الصور المؤثرة في استعارة "ضربتيْ مجذاف في نهرين لا يلتقيان." هنا، يخلق الشاعر صورة بصرية شديدة التأثير تعبر عن استحالة التواصل بين شخصين رغم الجهد المبذول في الاتجاه نفسه. حركة المجذاف ترمز إلى محاولة الوصول إلى الآخر، لكنها تظل بلا جدوى، لأن كل طرف يسير في مجرى مختلف، محكومًا بقدر لا يسمح بالتلاقي. هذه الصورة تختزل فكرة العزلة الوجودية التي تتكرر في القصيدة، اذ يبقى الإنسان منفصلًا عن الآخرين، حتى حين يحاول الاقتراب منهم.
تمثل قصيدة "زهرة سوداء" نموذجًا للكتابة التي تعتمد على التشظي والانفتاح كأدوات رئيسية لتشكيل التجربة الشعرية. يتجلى هذا التشظي في بنية النص ذاته، اذ لا يوجد تسلسل زمني خطي أو تطور منطقي للأحداث، بل هي مقاطع متفرقة تُعبّر عن لحظات متقطعة من الوعي. لا يقدم الشاعر سردًا واحدًا أو متسلسلًا للأحداث، بل يستعرض مشاهد من الوعي والذكريات والتأملات التي تتداخل مع بعضها البعض وتغيب عنها أيّ روابط أو سياقات ثابتة. يبدأ النص بجملة محورية "وبعد.. ماذا سيقال في الروح أبلغ مما قاله سكران: (الروح خنثى)" ليأخذ القارئ إلى سلسلة من التأملات التي تفتقر إلى بداية واضحة ونهاية قاطعة. هذه البداية المفتوحة تمهد الطريق لتدفق غير منتظم للأفكار التي تتنقل بين الوعي واللاوعي، وهذا يعكس حالة التشظي الداخلي التي يعيشها الشاعر.
يُعزز التشظي في القصيدة عبر الانفصال بين الشاعر وواقعه، ما يُظهر حالة من الانقطاع الوجودي. فالروح، في هذه القصيدة، ليست كيانًا متماسكًا بل هي هشة، تتأرجح بين المتناقضات، كما تجسدها استعارة "الروح خنثى". هذا الانفصال عن الذات يجعل الشاعر يتنقل بين لحظات من الإدراك والتمزق، فلا يجد نفسه قادرًا على الإمساك بمعنى ثابت. كما أن الصورة المتكررة للمفكرة، حيث يدوّن الشاعر ملاحظاته فقط ليكتشف لاحقًا أنها تظل غامضة وغير مفهومة:" عندما استيقظ لم يعرف بالضبط ماذا أراد"، وهذا يبين أن الفهم لا يأتي قط، وأن كل محاولة للترتيب أو التفسير تواجه بنهاية غير متوقعة وغير واضحة.
وتتسم القصيدة أيضًا بالانفتاح الدائم على التأويل، فهي تترك العديد من الأسئلة بلا إجابة. على سبيل المثال، تساؤل الشاعر المتكرر حول "الروح روح من؟" يبقى دون إجابة حاسمة، ما يضع القارئ في حالة من البحث المستمر عن المعنى. الصورة الرمزية للزهرة السوداء، التي كانت تمثل الحب، ثم تصبح علامة على الانفصال والعنف، تبقى هي الأخرى غير محددة تمامًا.