الدّال السّردي والمدلول المتعدّد في قصص صلاح زنكَنه
عمر رعد أسعد
ينتظم تشكيل المعنى بمجال سيميائي على وفق بناء دال يتمفصل على وحدات إحاليّة (علامات) يشتمل عليها الخطاب السردي, وهي عندئذ تستند إلى تكوّن يتجاوز ثنائية الدّال والمدلول إلى مجال التوالد الدلالي بأطر اشتغال العلامة وفاعلية التأويل النصي, ما يعني أنّ الخطاب السردي سيكون أمام بنيات الدال والمدلول, إلّا أنّ المدلول قد يتحوّل إلى صفة التدليل القابل لتوالد متعدّد يرتبط ضمناً بمستويات المدلول الأول, الذي يحمل الدلالات المتحققة أو المرتبط عاموديّا بتأويل يفضي إلى المبدأ التّوليدي, فالمعنى أصبح دالّاً رمزيّاً يشتغل سيميائيّاً في ضوء التّحوّلات بعلائقيّة المدلول فيزيح دلالته الأولى بنسقيّة متسلسلة؛ عبر (البؤر) التي تسمح بتحديد موقع سيميائي قابل للتأويل وتقاطع الدلالات, وقد أطلق المختصّون على هذا التكوّن بـ( التّمفصل المضاعف), الذي يرفض تحديد المعنى بناءً على المدرك التقريري في العلامات اللغوية, وإيجاد علاقات تسمح بتأويل المدلول وتحديد مستوياته التعيينيّة, وقد تضمّنت هذا البُعد قصص صلاح زنكَنه, لاسيما ( العالم كلّه مشغول), إذ يتقابل التّنميط الجمعي (مشغول) الذي يرتبط بالأيدولوجية الذّاتية التي تنعكس على وعيه بالواقع حتى بدت مظاهره متسبّبة بوحشته منه, فهو يعاني صراعا يعايش آثاره, وصار يلازمه فيقول بعد عرض طبيعة الانشغال الكوني: (( أنا فقط مشغول بجهاز الهاتف, الهاتف مشغول..., ثمّة رنين في داخلي.., أضع يدي على قلبي, القلب مشغول... مشغول بالرّنين, ثمّة رنين ولا أحد يرد...العالم كلّه مشغول)), فالانشغال هو البؤرة المركزيّة في التّمفصل الدّلالي الموجّه لمسار التأويل, فهو المكوّن التّأسيسي الذي يسمح بصياغة دلاليّة مزوّدة بتنظيم تقسيمي يشتمل على خطاب السّرد ويشكّل دلالته المركزيّة, والقاصّ في ضوء التّشكيل التوالدي يسعى إلى بسط المعنى المضاعف (مشغول), بتعيين ما يستنتجه من تداعيات تغييب الوعي في الحياة, ليكون هذا الوصف قائم بدلائليّة التّلازم الذي يتشظّى في التكوّن الثّقافي, الذي يسمح بصيرورة قاعدة معرفيّة لتمفصلات اندماجيّة تغطي السّلوك الاجتماعي, فالبؤر المتواجهة في دوال: (أنا- العالم, القلب-الرنين, الهاتف, العالم – لا أحد), ترتبط بالتكوّن التّجزيئي عن الأصل, إلّا أنّ التّمفصل المدلولي (مشغول) يمنح هذه الرّوابط استقلاليّة الذّات لتمثيل الواقع في ضوء تقابل المقولات السردية: ((أضع يدي على قلبي, القلب مشغول, مشغول بالرّنين, ثمّة رنين ولا أحد يرد)), القائمة على الارتباط بمدلول إجرائيّ يسهم بالكشف عن مضامين مأساويّة.
تنتج التّعبيرات السردية علامات دالة تسهم بتدفق المعاني بمستويات تحيل على عمومية المقاصد في الخطاب, والعلامة السّيميائية في جميع مظاهرها إنّما هي حوامل للمعنى بطرائق تتعاطى وفكرة التّأويل انطلاقا من طبيعة تشكّل الدّال عبر أصوات ماديّة التكوّن, بينما تنشأ طبيعة المدلول من صورة ذهنية تستدعيها تصوّرات قابلة للإنتاج التكويني, أي بسلسلة تحوّلات اشتغاليّة بين الدّال والمدلول, وهذا التكوّن يتماز بخصوصيّة سرديّة تنهض بعملية المضاعفة الانتقاليّة للمعنى في نسق الإحالة والترابط الموضوعي, فقصة (حفنة تراب) اجسد المضاعفة التي تتمفصل على الصراع بين القمعيّة التي تمثلها السّلطة في مواجهة الحريّة والرّغبة برسم ملامح مغايرة لرؤيتها للحياة, فشخصية السيدة (غريبة) تتّخذ موقفا يجعل للوطن منظورا خاصّا, وتصادر أيّ توجّه آخر أو رؤية أخرى مغايرة, والقاص يوجّه السرد بالتقاط موقف من درامية الحدث الذي بدأ من صرخاتها: (( حرام عليكم, حرام عليكم, حرام على الحكومة, حرام..)), التي برزت بؤرة عليها مدار الخطاب أو دورة المعنى, لتعبّر عن حالة الرّفض والتضّجر وماورائيات تشتمل على فكرة تهميش الآخر, فعبارة (حرام) تتمفصل بتشكيل سيميائي بمسار مضاعف على تركيبة الخطاب؛ ليجعل الصّراع قائما بين طرفين فيسهم بتعزيز الإرادة التي ترفض ثقافة القطيع وإعلان الولاءات الجمعيّة للسّلطة, لاسيما في تحديد مفهوم الوطن ورسم صورته في مخيّلة الآخر, وقد برز على لسان الراوي العليم وهو يلتقط مواقف تجسد خطاب الرّفض عبر ممثّلات دالّة تجسدها شخصيات: (الخالة غريبة, الأستاذ قادر وأبنهما آزاد), تلتقي في تعيين موضوعة السّرد وتبئيره, ما يعني أنّ الدّلائل التي تعرضها الممثّلاث هي وحدة اشتغال تمنح المتلقي إنتاج قاعدة تفكير استدلالي, فضلا عن كشف وقائع خارجية ترتبط بخطاب الهوية, ويمكن إدراك هذا البُعد في مدلول (حفنة التراب) التي حملها الأستاذ قادر بينما تقتاده قوات العسكر إلى السّجن, (( في الحوض الخلقي للسيارة كان الأستاذ قادر مقرفصا بهدوئه ووقاره المعهودين يبحلق بعينين مذهولتين صوب الأفق البعيد وفي قبضته المضمومة حفنة تراب)), ومؤشر التراب يطرح صراع القيم التي تضاعف الدلالة؛ لأنّه ممثّل قيَمي ومعادل موضوعي لخطابها, فهي تراعي الوطن وتحفظه ممن يكيدون له, ومن هنا ندرك المفاهيم التي يطرحها السّيميائيون لجعل المعبِّرات النصيّة وسائط دالّة لتقريب المقاصد بعلاقات التّمثيل الموضوعي ومطابقته الواقع, وهم يرون أنّ هو المنطق التعبيري هو تعريف بشروط صدق الممثّلات, وأنّ تحليل المنطق تحليل للدلائل, فيعنى بدراسة العلاقات التركيبية للدّليل المقصود, الذي يتحصّل من مدلول الدّليل السّردي, فما يعرضه الراوي في سؤاله أمّه: ((ما هذا التّراب في يد الأستاذ قادر؟, قالت دون أن تنظر إليّ, وكأنّها تحادث نفسها وهي تشدّني بحنو: إنّه الوطن يا بني, الوطن)), هو مؤشّر تعضيدي لدليل القصد عند الشخصيات المقهورة, وهو منطق المقاربة التّطابقي, الذي يراد التعبير عنه بوساطة نتائجه: الملاحقة المستمرة, الوضع في حوض السّيارة الخلفي, الزجّ في السجون...إلخ, ما يعني أنّ السلطة تضطلع بممارسات التّهافت أمام الحقائق, وهذه المحاولات لا تلبث أنّ تكون خطابا يضمر حيازة الأنا, وقد سار الرّاوي في تعيين هذا المستوى في سرد المدلول في تتمّة الحوار: ((إلى أين يأخذونهم يا أمي؟, إلى وطنهم, أوليس هذا وطنهم؟ بلى بلى, ثم أردفت تكلم نفسها بصوت عال: يبدو أنّ لكلّ منّا وطناً بديلا آخر, وهل يأخذوننا تحن أيضا إلى الوطن؟)), ليحدّد بمضمونه الطّابع الإيديولوجي, والراوي يجسّد هذا الوعي بعد اعتقال زميله آزاد وانقطاعه عن المدرسة: (( سأل المعلم تلاميذ صفّنا, صف الثاني الابتدائي شعبة باء: ما هو الوطن يا أولاد؟, رفعت سبابتي وأجبت على الفور من دون أيما تردد وقبضة والدك المضمومة كانت شاخصة أمام ناظري, فقلت بثقة عمياء: أستاذ الوطن هو حفنة تراب)), وهذه الإجابة تشفير للمعنى وتحييده بالتّجربة الخاصّة, فحفنة التّراب علامة بؤريّة تقوم عليها الدّورة الدلاليّة في ضوء تعيينها المضاعف ومؤشرات الهويّة التي تجعل للصراع تعريفا قائما على معطيات الأسلبة, وموضوعات الارتباط بالهوية.