الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ثقافة الإلغاء.. أداة للمحاسبة أم وسيلة للقمع ؟

بواسطة azzaman

ثقافة الإلغاء.. أداة للمحاسبة أم وسيلة للقمع ؟

منتصر صباح الحسناوي

 

منذ فجر التاريخ البشري، عرفت المجتمعات البشرية ممارسات الإقصاء والإبعاد، التي يُمكن اعتبارها الجذور الأولى لما يُعرف اليوم بـ ”ثقافة الإلغاء”. كان الإنسان يسعى دائماً إلى التخلص من كل ما يهدد استقراره أو معتقداته السائدة فتنوَّعت أشكال الإلغاء عبر العصور بين التشهير، النبذ، العزل، المقاطعة، الحرمان، الإقصاء، وحتى النفي المجتمعي. كانت هذه الممارسات تستهدف الأفراد الذين تراهم المجتمعات بلا منفعة أو يمثلون تهديداً للمنظومة الاجتماعية. وعلى مر العصور، حُرم هؤلاء من الحماية الاجتماعية ومن التفاعل مع المجتمع السائد.

مع دخول البشرية إلى العصر الرقمي، وتحديداً بعد إطلاق الإنترنت العام في عام 1991، تطور مفهوم الإلغاء بطرق لم تكن متوقعة مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، برزت مصطلحات جديدة مثل “Renrou susuo” في الصين، والتي تعني “البحث عن اللحم البشري”. هذا المصطلح كان يشير إلى حملات التشهير العلني التي تهدف إلى فضح الفساد الحكومي أو السلوكيات المشبوهة، انتشر أيضاً استخدام مصطلحات مثل “wangmin” (مواطنو الويب) و“wangyou” (أصدقاء الويب) للإشارة إلى حملات التعاون المجتمعي على الإنترنت لجمع المعلومات حول شخصيات أو قضايا مهمة. تحول تركيز هذه الحملات تدريجياً من مكافحة الفساد إلى استهداف الأفراد الذين يظهرون سلوكيات تُعد غير أخلاقية، مثل ارتداء الموظف البسيط لساعة فاخرة تفوق دخله، أو إساءة معاملة المعلمين لطلابهم، أو ظهور الشخصيات العامة في أماكن مشبوهة. كانت النتيجة مطاردتهم وجلدهم لفظياً وعزلهم اجتماعياً.

ثقافة الإلغاء

على الرغم من انطلاق مفهوم “ثقافة الإلغاء” بشكل بارز في الصين، إلا أن الفكرة انتشرت بسرعة إلى مناطق أخرى من العالم. في المجتمع الأميركي بدأ المصطلح يظهر في الثقافة الشعبية بعد فيلم New Jack City، حيث قال نينو براون (الذي لعب دوره ويسلي سنايبس): “إلغِ تلك المرأة، سأشتري لك واحدة أخرى”. تحولت هذه العبارة إلى مزحة بين الشباب وانتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتتحول إلى أداة للمقاطعة.

مع بداية العقد الثاني من الألفية الثانية، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي مثل تويتر ساحة رئيسية للتعبير عن الاستياء من شخصيات أو شركات. كان الهدف من ذلك غالباً المطالبة بمحاسبة هذه الجهات على سلوكيات تُعد مسيئة أو غير أخلاقية. بمرور الوقت تحوَّلت “ثقافة الإلغاء” إلى قضية نقاش في وسائل الإعلام التقليدية وأخذت أبعاداً سياسية وأخلاقية واجتماعية معقدة.

انقسمت الآراء حول ثقافة الإلغاء، إذ يرى البعض أنها أداة ضرورية لتمكين الأفراد من الدفاع عن أنفسهم ضد التحيزات والظلم الذي يمارسه أصحاب السلطة والتي توفر في الوقت نفسه وسيلة للمضطهدين لجمع قواهم ومحاسبة من أساء إليهم أو استخدم سلطته بشكل غير عادل.

من جهة أخرى يرى آخرون أن هذه الثقافة أداة قمعية تُستخدم لتقييد الحريات الشخصية ومعاقبة الأفراد بحدة غير متناسبة مع أخطائهم وقد تُستخدم أيضاً للابتزاز أو الانتقام.

حرية التعبير

هذا الجدل دفع العديد من الأكاديميين إلى دراسة تأثير ثقافة الإلغاء على حرية التعبير وسلوك الأفراد والمؤسسات. فظهرت دراسات عديدة في السنوات الأخيرة تناولت كيفية إيجاد توازن بين المحاسبة الاجتماعية وحرية الرأي. وعلى الرغم من كل ذلك، لا يزال النقاش حول الظاهرة مستمراً، مما يعكس التعقيد الكبير الذي تحمله في طياتها.

يمكن أن تحمل ثقافة الإلغاء مخاطر حقيقية على المجتمعات غير الواعية بأبعادها أو تأثيراتها، في هذه المجتمعات قد تتحول الظاهرة إلى أداة للفوضى الاجتماعية، إذ يُلغى الأفراد دون محاكمات عادلة أو فرصة للدفاع عن أنفسهم، وقد يؤدي هذا إلى تعزيز الانقسامات المجتمعية، وخلق مناخ من الخوف والتردد في التعبير عن الرأي أو المشاركة في النقاشات العامة.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تُستخدم ثقافة الإلغاء في عمليات تزييف واستغلال مادي أو سياسي أو اجتماعي قائم على الكراهيةولا سيما مع التقدم التكنولوجي وظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي، بات من السهل التلاعب بالمعلومات والصور والفــــــــــيديوهات لإثارة الرأي العام ضد أشخاص أو جهات معينة وقد يؤدي ذلك إلى تشويه سمعة الأبرياء أو تدمير حياتهم المهنية والـــــــــشخصية دون وجه حق.

لذلك أصبح من الضروري تعزيز الوعي المجتمعي حول هذه الظاهرة وتثقيف الأفراد بضرورة تحقيق التوازن بين المحاسبة العادلة واحترام حرية التعبير لضمان مجتمع متماسك وعادل.


مشاهدات 187
الكاتب منتصر صباح الحسناوي
أضيف 2025/02/19 - 4:26 PM
آخر تحديث 2025/02/21 - 9:35 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 364 الشهر 11591 الكلي 10406962
الوقت الآن
الجمعة 2025/2/21 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير