الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الشعرية وصورة الواقع


الشعرية وصورة الواقع

جاسم عاصي

 

النظر إلى الشعر  كموقف جمالي غير محكوم بالنمطية ولا تـُسيره المصطلحات . إذ ا ما نُظر إليه ككيان متفاعل بذاته ، بقدر ما ينتظم وفق المسعى إلى تكييف ذائقة مخيال المتلقي وتفاعله من جهة والتي تقابل وتناظر مخيال الشاعر من جهة أخرى . من هذا لا نجد ثمة ثوابت لا في النظرة ولا في الانتاج،لأن كل هذا يخضع لنمط الإبداع . فالشعر من هذا هو نوع من الصياغة الجديدة وضرب من التصوير . وهنا لابد من الوقوف عند كلمة التصوير،التي لها علاقة بجنس جمالي هو الفوتوغراف،الذي خرج من نمطية انتاج الصورة وفق صياغات مهنية نحو صياغات إبداعية واسعة . بمعنى أصبح على الأقل ضمن ذائقتنا قيمة لنص الصورة . من هذا يكون التصوير هو الجزء الأساس في الشعر أيضاً،لأنه يرتبط جماليا ً بزاوية الرؤية المحددة من خلال عين الكاميرا وعين الإنسان . هذه الثنائية تؤشر حساسيتين ونحن إزاء قصائد ( أمير ناصر ) ، فعين تنظر من خلال عين الكاميرا وبحساية فائقة،وعين الشاعر الذي يترجم ما تعكسه عين الكاميرا لسانيا ً. وهذا نجده يتوفر في الإيقاع الداخلي للشعر،لأن القصيدة تتعامل مع منظور أي شيء مشاهد،تحاول العين المزدوجة معرفياً أن تنظر بازدواجية جمالية . وحسب ما ذكره ( عبد الله الغذامي ) كون الشعرية في النص هي مجموع السمات التي انتقلت من كونها الجمالي الخالص لكون حضاري ثقافي . من هذا يمكن النظر إلى شعر ( أمير ناصر ) باعتباره منظومة جمالية تلخص واقع الصورة التي تمارسها العين في تداخلها مع مشهد الواقع . فهي تختزل وتـُكثـّف وتوجز ما ترى،بل أنها تنتقل به ــ حسب الغذامي ــ إلى كون الشعر المحدد نظرته بكون الصورة الملتقطة من تشابك الواقع ، باتباع فعل فك هذا الاشتباك الملغـّز ، ووضعه في صورة بلاغية أخرى ناقدة ومشتبكة من جديد،ولكن بلغة أسهل ودلالة أعمق . فالشاعر حسب ( سكاسيل ) يلتقط القصيدة من فضائها باتجاه فضاء المدونة الشعرية،معطيا ً إياها دلالة نشطة على وفق نشاط إبداعي ونظرة محددة بأفق الشعر . فهو كثير الإيجاز،حريص على أن يجعل الدلالة ضمن المنظومة الشعرية بدلالة الصورة الملتقطة من الواقع . فشعره واصف ومدقق بالمرئيات . غير أنه انتقائي يعكس حدة التناقض من خلال بساطة الطرح الذي يعمد إلى تقشير الصورة المرئية لوضعها في مرتبة الشعر . والصراع في شعره يدور بين البدئية أو البكرية وما تضفيه تراكمات الأحداث كالحروب والمصادرات السياسية وتضييق الحرية وفي الطرف الثاني البراءة التي تتحلى بها الطبيعة،لأن الشاعر يركن إلى براءة الأشياء ، ويتشوف إلى صورتها كما يراها هو لا كما يراها الآخرون ممن يحاولون تشويه الحياة . فالغنائية وتراتب الإيقاعات في القصيدة تـُضفي جمالية أخرى على جمالية اللغة الشعرية . وهذا يتم عبر السعي إلى لملمة الصور في مقطع . والمقطع ليس بالضرورة أن يُقاس بطوله،وإنما بقدرة نسقه على عكس شعرية الصورة الملتقطة من الواقع .

والنظر إلى ديون ( أمير ناصر ) الموسوم ( طعنات أليفة ) تستدرج العلامات ابتداءً من العنوان،والمعتمد على صفة وموصوف . فـ ( طعنات ) دال على قسوة وشراسة،إذ تفتح بابا ً أوسع لمنظومات تحاول أن تـُقهر المغاير،وهي لفظة توحي بالريبة . لكن الشاعر مجازا ً ينعتها أو يصفها بـ ( أليفة ) . وأرى أن هذا الوصف تأكيد مجازي على ماتضمره المفردة ــ الجمع من أشكال مضادة للإنسان ومهددة لوجوده . أما لوحة الغلاف فتؤكد أيضا ً على ما دل عليه العنوان،لأن لوحة ( بيكاسو ) موقف جمالي يؤكد على شراسة الحرب . وقد اختار الشاعر صورة المرأة المفجوعة والساقط من الإنسان مضرجا ً بدمه . كذلك جمع كل هذا بوجود رأس الثور المحصِّب،الذي استخدمه الفنان ( جواد سليم ) كرمز للنماء في رائعته ( نصب الحرية ) . إن مجموع هذه العلامات تؤكد كعتبات على محتوى حمل وزر أزمنة متقلبة على جمر الحرب والاضطهاد،وإن بدا أكثر هدوءا ً في قصائد الديوان . لأن الشاعر يتعامل مع الجوّاني من المشاهد والأشياء والمرئيات،قصد الكشف عن ما ورائياتها . فهو يمارس فعل التراتب الذي تمنحه الصورة المرئية من خلال ماهو حامل لنسق مثير كما هو في البيت التالي :

           { هكذا الصورة

             الواجمة في الذاكرة }

فـمفردة ( هكذا ) تنقل الصورة من خارج نسق البيت الشعري . كأنه يقول هكذا تتوالى الصور . فصيغة المفرد دالة على التكرار المضمر . وتـُحيلها صفتها ( الواجمة ) إلى تراكم أيضا ً ، لأنها ضمن منظومة الذاكرة . والدليل على ما ذهبنا إليه،هو ماتكشفه بقية الأبيات كالطعم المر وسيلان دهان حروفها . هذا كله كشف بإيجاز ما تنطوي عليه  القصيدة من صور بفعل ارتباطها بتاريخ الواقع . ويأتي في المقطع الثاني مجاز التعبير الذي يكشف أيضا ً عن عظمة المأساة،حين ترتبط الرصاصة القاتلة بـ ( أرفل ) وهو مجاز أكثر كشفا ً لعمق مكنونات الذات الشعرية . فالإيجاز هنا في المقطع يترك أثره من خلال مفردات يفصح تراتبها عن عالم واسع يختزله الشاعر ببضع مفردات . وهو اختزال بليغ . وهو ما يكشف المقطع الرابع من قصيدة ( طعنات أليفة ) الذي يُشير إلى بساطة التعبير وبلاغته :

      { يبقى النسر على الربوة

         لا يحمل أي سرٍ

         يبقى بروح عريقة

        ولون حقيقي }

ولكي يعكس معاناة الإنسان،لا يسمي الأشياء والأفعال بسياقاتها،بقدر ما يهبها إيحاءات  دالة،ليكشف دون مباشرة عمق المأساة أيضا ً :

        { عندما ، النهار

            يهز القصبة

            تندلق الظهيرة على رؤوسهم }

وتكشف المقاطع ( 6 ، 7 ، 8  ) عن عمق الدلالة عن توصلات الواقع بفعل الحرب المضمرة في اشارات الشعر . فالشاعر غير معني بتسميتها،بقدر ما معني بانعكاساتها المدمرة . كما وأنه لا يصف الدمار المادي، وإنما يتابع الذات الإنسانية،ليستل منها الوجع الدائم التأثير . ولا تخلو قصيدة أو مقطع من تورية للفعل المباشر،فهو يكتفي بالأثر ولا يعني بالمؤثر . إن الكشف عنه يتم من خلال بشاعة ما يطرحه من صور . وهي صور حاول الشاعر أن يهتم من خلالها بمراوغة اللغة التي لم تتكئ على المتوحش من الكلمات الدالة على المباشر من الأثر،بقدر ما يؤدي بالذهن الشعري إلى استدراج اللغة الشعرية بعيدا ً عن التهويل . فالمتلقي الذي هو جزء من النص،له دور في شحذ الإحساس من جهة،وتفعيل العقل المخاطَب ليكون بمواجهة ما خفي من تأثير . فالشيئية التي يعتمدها الشاعر في قصائده،كان لها تأثير إذا ما دُقق بها،وأخذت المفردات ضمن سياق النص ، وعدم الحكم على التشظي في المشهد :

 

 

        { عندما أتحدث عن الشعر

           وعن محمد خضير

           يشتد بي الحنين لأماسي دجلة

           منائر ، أعمدة كهرباء

           ورياح تتسلل لبضاعة

           مغلـّفة بالـ ( سيلفون ) }

 والمتمعن في هذا المقطع جيداً  يكتشف أن الضمير الذي همه الحديث عن الشعر من باب رهافته وشدة تأثيره وسعة بينته،بدليل ربط هذا الحدث بما له خصوصية شعرية هو شخص ( محمد خضير ) . ويوسع الدائرة التي يود الدخول إليها بربطها بالحنين . أي أنه تسلل إلى أزمنة عابرة نحو الماضي،مقابل ما يناقضها من أزمنة آنية . فالحنين له مبرراته الموضوعية . وليس أدل على البعد النفسي الذي هو الذي يحمل المبرر لهذا الفعل ــ الحنين ــ . والتذكر هنا أيضا ً يختصر أزمن متمثلة بـ ( منائر ، أعمدة كهرباء ، رياح ) . فالتعبير هنا في أشد حالات الاقتضاب والإيجاز . فهو لم يدخل بنا إلى تفاصيل قد تؤثر على تركيزنا ، وإنما اكتفى بالقليل لكي يمنحنا فرصة تصور المشهد عبر أزمنة متباعدة .

ولعله مولع بمثل رصد هذه الصور التي تضعنا في مركز الواقعة . إن فعل الشعر هنا ينبثق من الشيئية التي عليها المشهد ، والصياغة تتواصل ، سواء عند الشاعر أو عند المتلقي ، لأن الشعر هنا معني برصد المشهد بعين الكاميرا،التي تكمن فيها البلاغة في التعبير ولعل هذا المقطع خير ما يُعبّر عما ذكرنا،فنحن أمام مشهد بانورامي،يتجرد من فعل اللغة المؤثرة التي تستقطب المفردات ذات الوقع المباشر،أو أنها تعتمد التركيب المعقد ، فقط اكتفت بلغة الكاميرا لتجسيد المشهد :

               { الجسر الخشبي الذي توسد المكتبة العامـّة

                  كونه مغروس بالماء

                  نمت نرجسة على ساقيه

                  والأطفال المشاكسون

                  يراقبون ــ عبر الشقوق ــ

                  وقع الخطى للألوان الباهرة }

ولننظر إلى ما عكس المقطع من صور متحركة . فالجسر مكان،وبالتالي يحكي تاريخ،لأنه ( مغروس ) في الماء وليس عائما ً على الماء . والفرق هنا كبير بين الغرس والعوم . ثم ( توسد المكتبة ) بمعنى كان معبرا ً للمعرفة . وهو وصف دقيق للمشهد في المدينة الصغيرة ــ الشطرة ــ فللنهر تاريخ،وللمكتبة أعمق تاريخا ً . ذلك لأن دلالة قرب المكتبة من النهر،دلالة أسطورية خالصة ، فالمكتبة ــ المعرفة المتحركة ــ تستمد أيضا ً حركتها المضافة باستمرار من النهر .. فأنت لا تدخل إلى النهر مرتين .. كما وأنك لا تدخل إلى المكتبة مرتين أيضا ً . فكلاهما متحرك وجار،وهما من يمنح الإنسان المعرفة والوعي والحياة الجديدة  . وقد نقل الشاعر في هذا المقطع وغيره الصورة المشرقة للنهر الذي يتوسط المدينة،كنهر الشطرة ونهر الحلة مثلا ً،حيث تنقسم المدينة على ضفتي النهر إلى اثنتين،لكل منهما حيويته وتأثيره في عالم الضفة الأخرى . ولكي يُكمل الصورة يضعها ضمن معادل حيوي يتركز في نماء النرجسة ودلالتها الأسطورية ، ثم تناظر هذا المشهد من صورة الأطفال .غير أنه يضعهم ضمن حاجز ( عبر الشقوق ) . وهذا المجاز دليل على الرغبة في ممارسة الطقس،غير أن مانعا ً خبأه الشاعر،لكنه أظهر تحدياً  في ( وقع الخطى للألوان ) . أرى أن هذا التكثيف،يعتمد مركزا ً من خلال صياغة مجموعة صور في صورة . ولكل جزء منها دلالة تكشف عن حالة أو ظاهرة .

في مقطع آخر يُشير إلى صور أيضاً،لكنها صور إدانة غير مباشرة لمشعلي

الحروب وخالقي الدمار للمدن والأرض والإنسان . فهو يخاطبهم بكل بساطة

. كاشفا ً عن شيء مضمِر،من أجل أن لا يُفسد الشعر في التفاصيل :

               { أنا لم أحرق حقلا ً من قمح

                  أنا أحرقت أصبعي

                  مدميا ً أقدامي

                  حول قبر غريب

                  خشية الزهور والعشب }

وفي هذا نجد التعبير يتجاوز الظاهر،ليعبّر عن الصورة الأخرى . فإذا لم يحرق إلا إصبعه،فهناك من أحرق القمح،ويزيد من الصورة في التضحية،أنه يلامس الرقيق من الطبيعة،كالزهور والعشب النابت على قبر الغريب الذي يدنو منه الشاعر . ويزيد من مثل هذه الصورة من التضحية غير المهوّلة والمبالغ فيها،بل الإشارة إلى تلك التي ترتبط تأثيرا ً وصورة بفضاء الأسطورة . إذ يكتفي بتركيز معنى التضحية وبكل بساطة شعرية،معتمدا ً على ثنائية الموت والحياة،الإخصاب والانبعاث :

                 { إذا لم يكن أبي نورسا ً

                    خصّب أنثاه في ( أوروك )

                    فالحقب الباقية

                    للريح

                    وللظلام والعفن } 

فهو في هذا أكد على ما تؤول إليه الصورة المعاكسة لتأثيرات الخصب،الذي وهبه إشراقة حضارية  . فالربط بين الأب ومدينة أوروك مدعاة لتعتيق الصورة،أي الوصول إلى جذرها في تالأب ممثلا ً نقاء طائر النورس لما يمتلكه من صفات . وهو إنما يُشير إلى تواصل الحلقات الحضارية . إن الشكل من العلاقة المعاكسة،تعني في أكثر ما تعنيه حالة الموقف في وصف النتائج في ( للريح ، الظلام ، العفن ) وهذا الثالوث يكفي أن يُعطينا الصورة تلك . أي موت الحضارة وتواصلها بموت مكوناتها .

في قصيدة ( قريتي يا قريتي ) يحاول أن يعود إلى الجذر الذي يعتبره الأساس ، معبّرا ً عنه في العنوان بـ ( جمرة الطفولة ) مبتدءا ً من عناصر الطبيعة ، التي تتوازى مع صورة البراءة ، والنشأة الأولى . ولأنها أكثر من أسطورة الوجود،ونماء عناصر الحياة . ومن هذه الصياغات في مفردات كـ ( القمح،حمائم شجرة ، برتقالة ) حتى يصل إلى الأكثر تعبيراً  عن هذا الكون . حيث يطلق عبارته الشعرية  الأكثر بلاغة في التعبير ، لكنه يرددها بأسى :

                {  أين أغاني  طفولتي

                    التي مشت معي على النهر

                    وتراقصت حولي

                    في الحقول الخضراء

                    أين أغاني طفولتي

                    شيء واحد أتذكره هو

                    حجم كفيك }

هذه الرومانسية المشوبة بالأسى،تـُشير إلى الصورة التي عليها الواقع . ذلك لأنه يواصل رحلته في رحاب من يتذكر ولا يُجسد سوى مثابات البراءةـ،وما يصاحب الطفولة من عمق ممارسة الطقوس التي منطلقها براءة العلاقات الإنسانية،فهو يتذكر مثلا ً :

        { يوم توردت وجنتاك

           عبر الموقد

            اتقدت  كبير جمرة القلب

            ولأن سماءنا واسعة

            صار عشقنا كبيرا ً ونقيا ً }

 هذه القصيدة مبنية على التذكر الذي يُذكي المشهد ببلاغة الطفولة وبراءة الحياة،وقوة الإصرار على البقاء . إن الشاعر وهو يواصل تعميق الرؤية للحياة،يمارس فعل التعامل مع الموجودات والأحاسيس بكل ما يكتنفه الهدوء الشعري . فهو شديد الحرص على استعمال اللغة،بحيث لا تـُبعده عن براءة النظرة والتأمل في ما هو جزء من الماضي،واسترجاعه يُشكـّل  الموقف الذاتي للشاعر لحظة استكمال رؤاه . في قصيدة ( مدن ) يحاول أن يتدرج في الكشف عن مدينته ابتداء من ( المدن تلوّنها عيوني بالأحمر القاني مرة / وبالأخضر مرة / ودائما ً بالأصفر الشاحب ) فالأحمر هنا دليل على الشكل غير الإنساني الذي عليها المدن ، بالرغم من دلالة الأحمر المخصِب . لكن الأخضر كشف عن صيرورة أخرى،لكن الأصفر كما يبدو هو الطاغي . فصورة المدينة تقع بين إشكالات كثيرة . ويكاد هذا يكشف عن السيرة لإنسان الشاعر،فهو ضمن دوران الأزمنة في ( أن خيولاً أكلت تفاح سعادتي ) . إن الشاعر هنا إنما يعمد على أن يقدم لنا مشاهده عبر كاميرته،ومن خلال هذه الصور يتم تأكيد المشهد . فهو مراقب حسّاس لمجريات الواقع وما تحمله الذاكرة،محولاً كل مشاهده إلى تساؤلات . فمن ( أفتش في الضمادات / عن جراح لأصدقاء قدامى ) إلى صورة القمر و ( هو يسيل مثل بيض فاسد ) ثم (أغوتنا المدن بليل مصابيحها / وأغويناهم بالغناء / صاح المغني / يا.. و..ي .. ل .. ي ) حتى يصل إلى ( من أثث المدن هكذا / وجعل بائع الكعك على الرصيف / والمقهى على النهر / والقمر معلقا ً على شجرة ) . إن مجموع الصور أفضت إلى السؤال الكوني ، فكل التفاصيل تلك كانت البوصلة التي كشفت عن السؤال الذي يقود أيضاً إلى كشف صورة ألأسى،في قصيدة ( شاي الساعة الرابعة ) من خلال مقطع ( لا نتحدث عن أعاصير وخسارات / أو رجل فقد ساقه في حرب / ولا عن قمر يتسول في سماء / كن مثلي / وأنا أحصي أيام الطحين / على أطراف أصابع زوجتي ) .

إن صورة الحرب  ، واحدة  من الصور الأساسية التي تخلق مناخات الشاعر ( أمير ناصر ) ، شأنها في قصائد الشعراء الشباب ، الذي واجهوا الحرب مبكرا ً،حيث أطفأت جمالية الحياة . والشاعر هو الأكثر حساسية  بين من تركت الحرب أثارها بشكل مباشر،لأن  الشاعر كإنسان واجه الخنادق والموت المجاني،وبما يؤكد على صورة المأساة فصورة ( تمر الشاحنة الهائلة / ويبقى الطفل ذو القبعة / يلهو على الآليات المحطمة / ذات القسوة / يمر الطفل وتبقى القبعة والشتائم )  . ولعل مقطع ( حلم ) هو الأكثر قوة في تجسيد المفارقة الشعرية،من خلال تناوله الصور والصور النقيضة،من أجل  الكشف عن صورة الأسى :

             { سأملأ هذا العالم بالأزرق

                جاعلا ً كل شيء يتسع

                جراحي والفراغ وعينيك

                أنا المتخلـّف عن قافلة حقيرة

                أراقب سرب بط

                يغادر بحيرة واسعة كالحلم }

فالبيت الأول يطرح صورة النقيض الذي يُسيّر الواقع،بينما الثاني يُشير إلى صورة التضييق . أي أن البيت يؤشر المختلف الذي يواجه ــ يتسع ــ،ثم أن البيت الثالث يرسم صورة الباعث والداعي للتخلف،في ما يخرج البيت الخامس والسادس عن كل ما تقدم،ليكون ضمن صورة البراءة المتمثلة بالبط . لقد تواصلت المناخات الشعرية لقصائد الشاعر،لتكون الوجه الأكثر تعبيرا ً عن الموقف والرؤى،متداخلة مع التنوع في الصور، والكشف الأكثر مأساة . من هذا تكون قصيدة ( خاتمة الطعنات ) إشارة إلى إن كل ما تقدم هو مجموعة انعكاسات لطعنات الواقع المضطرب، وما على الشاعر إلا رصد مثل هذا التدهور والاضطراب الذي ترك آثاره ثقيلة على ذات الإنسان ، بشكل عام، والشاعر بشكل خاص . فالقصيدة تعتمد الأرخنة لمراحل سيرة الشاعر ، الذي هو صورة لمشهد الحياة والإنسان . هذه السيرة أكدت على جملة محطات، كانت الحرب الحد الفاصل في هذه السيرة . وبهذا يكون صوت الشاعر قد أعطى تأثيره من خلال وضعه كصوت فاعل في مركز متغيرات الحياة . لقد بلور بذلك موقفا ًشعريا ً واضحاً أسهم في كشف حال الواقع بكشف تأثيراته ومؤثراته .

 

 


مشاهدات 267
الكاتب جاسم عاصي
أضيف 2025/02/07 - 11:41 PM
آخر تحديث 2025/03/09 - 7:17 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 328 الشهر 5095 الكلي 10466044
الوقت الآن
الإثنين 2025/3/10 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير