مقاربة سايكوفلسفية بين سوبر مان وترامب مان
العقلية الأمريكية في تغيير الأنظمة
رضا كامل الموسوي
يزدحم عالمنا المعاصر بالشخصيات السياسية والأبطال الخارقين، ويقف ترامب كرمز للهيمنة النفسية والاجتماعية أكثر من كونه مجرد بطل تقليدي. لكن خلف القناع الذهبي وتغريدات «الإنقاذ»، توجد أبعاد نفسية أعمق، تكشف عن الرغبات المكبوتة، الصراعات الداخلية، وإعادة تشكيل الهُوية في سياق عالمي متقلب.
«ترامب مان»، مثل كثير من الأبطال المزيفين، يتجسد في صورة الشخصية المجروحة التي تسعى للسيطرة على العالم من خلال إشعال الحروب النفسية والفكرية، معتقدًا أن العظمة تتطلب التدمير أولًا.
في هذه المقاربة، سنغوص في طيف من الأسئلة السايكوفلسفية، غايتها تفسير هذا الهوس بالسلطة والرغبة في التدخل من خلال نظريات نفسية مثل النرجسية أو التفوق الخفي وكيف ينعكس هذا «البطل» على الجماهير التي تتعلق به، وتعيد تأطير تصورها للواقع من خلال عدسات القوة الوهمية؟ أكثر من مجرد تسلية سياسية، إن هذه المقاربة تكشف عن التصورات النفسية التي تتحكم في الأفعال والأفكار وراء كل تغريدة، وكل قرار، وكل لحظة انتصار.
توترات داخلية
ويظل «ترامب مان» بمثابة تمثيل نفسي غارق في تشابكٍ من التوترات الداخلية والأبعاد الفلسفية التي تتجاوز مجرد كونه شخصية سياسية أو رمزًا للهيمنة. إن فهم هذه الشخصية يبدأ من تقاطع الفلسفة النفسية مع الفلسفة السياسية، حيث تصبح الرغبة في السيطرة ليست مجرد طموح، بل مظهراً من مظاهر النفس البشرية المتصارعة مع هُوياتها الممزقة ومعاييرها المأزومة. «ترامب مان» ليس سوى صورة معكوسة لنزعات نرجسية عميقة، مشروطة بالظروف الاجتماعية والتاريخية التي صنعتها. هو الشخصية التي تصارع في داخلها الكذب مع الحقيقة، الفوضى مع النظام، والذات مع الآخر. في صراعٍ دائم لفرض نفسه كبطل عالمي، فهذه الشخصية لا تسعى الى إلى تقديم الحلول، بل لتأكيد التفوق المطلق – وهي استراتيجية دفاعية نفسية تتفادى مواجهة الفراغ الداخلي بالتوسع الكوني.
وعند التعمق في طابع هذه الشخصية، نجد أنها ليست مجرد تجسيد للنرجسية الجامحة أو القوة السلطوية، بل هي تعبير عن قلق وجودي متجذر في لحظة تاريخية معينة، تندفع لتُعيد تشكيل العالم كما يشتهي عقلها المنقسم، حيث يستمد «ترامب مان» قوته من إعادة ابتكار الهٌويات والتصورات الجماعية، ليصبح مصدر تماسك وهمي في عالم متصدع. ففي كل خطوة يخطوها، تكمن محاولة للهروب من السؤال الأعمق: هل يمكن للإنسان أن يكون بطلًا دون أن يهدم داخله من أجل بناء هذه البطولات المزعومة؟
وهنا ومن خلال مقاربتنا السايكوفلسفية لن نسعى لتحليل «ترامب مان» فقط، بل ننفتح على دراسة العوامل النفسية العميقة التي تحرك الكثير من الشخصيات السياسية من قبله، لنكشف كيف يمكن للمعاني المجردة مثل القوة، السيطرة، والبطولة أن تتحول إلى آليات دفاعية معقدة تعكس أكبر الهواجس البشرية: الهويات المضطربة، والخوف من العجز، والرغبة المتواصلة في الحفاظ على الذات في عالم فوضوي لا يرحم.
فنحن على معرفة مسبقة بالأبطال الخارقين، ونعرف أن سوبرمان لديه شغفه بإنقاذ الأرض من الكوارث الكونية، بينما يظهر لنا ترامب مان نجما جديدا، لا يطير ولا يمتلك رؤية بالأشعة السينية، لكنه يملك حاسة خارقة لتغيير الأنظمة السياسية بضغطة تغريدة واحدة. وبينما يتنافس الاثنان على لقب المنقذ الأعظم، تتجلى العقلية الأمريكية في سعيها المستمر لتشكيل العالم كما ترى مناسبًا، سواء عبر الكابتن أمريكا بزيه الأزرق أو 'الكابتن تويتر' بربطة عنقه الحمراء. فما هو السر وراء هذا الهوس الأمريكي بالخلاص البطولي؟ وهل يمكن للواقع أن يكون أكثر عبثية من هوليوود نفسها؟
«ترامب مان» ليس كبقية الأبطال الخارقين. لا يرتدي عباءة ولا يحتاج إلى قناع، لأنه ببساطة يرى نفسه فوق فكرة التخفي. من منصة «تويتر» سابقًا (ومنصاته الخاصة لاحقًا)، كان يطلق كلماته وكأنها صواريخ موجهة تغيّر مصائر شعوب وتقلب موازين أنظمة. بينما سوبرمان كان يطير لينقذ قطّة عالقة على شجرة أو يوقف قطارًا مندفعًا،بينما ترامب مان «يطير» ليلقي خطبًا تثير العواصف السياسية، ويغرد تغريدات أقوى من أي تسونامي، فالعقلية الأمريكية، في جوهرها، تتميز بشيء من حب «الهوس البطولي». كل شيء بالنسبة لها يجب أن يتمحور حول فكرة البطل الذي يهبّ لإنقاذ العالم ،ولا عجب أن تتحول السياسة الخارجية الأمريكية إلى نسخة معدّلة من أفلام مارفل، حيث يتم استدعاء «فرقة الأبطال» لتغيير نظام هنا، أو نشر الديمقراطية هناك.
واذا ما كنا اكثر واقعية؛ سنرى ان ترامب مان لا يحتاج إلى فريق. هو فريقٌ بذاته. شعاره؟ لنجعل العالم عظيمًا... لكن على طريقتنا. وإذا ما عارضت او قررت دولة ما أن تعارض هذا الشعار، فإن الخطوات واضحة: تغريدة نارية تليها عقوبات، ثم شبح التدخل العسكري ليصبح المشهد أشبه بفيلم أكشن مملوء بالمؤثرات الخاصة.
أما سوبرمان المسكين، فهو حائر بين إنقاذ الأرض من الأشرار وبين مشاهدة ترامب مان وهو يعيد تعريف «البطولة» بطريقة يصعب حتى على كريبتون فهمها. ربما يجلس أحيانًا على قمة جبل ويهمس لنفسه: لقد كنت أوقف النيازك، والآن هناك من يغير الأنظمة كأنه يلعب مونوبولي!ومع ذلك، يبقى السؤال الأهم: هل هي حقًا «بطولة» أم مجرد إعادة إنتاج لنفس القصة القديمة التي تحكي عن القوة والهيمنة؟ وهل يستطيع العالم أن يتحمل هذا الكم من «الأبطال» الأمريكيين؟:
مسلسل طويل
ان العقلية الأمريكية في تغيير الأنظمة ليست وليدة اللحظة. هي أشبه بمسلسل طويل بدأ منذ أن قررت هوليوود أن تروّج لفكرة أن العالم يحتاج دائمًا إلى «مخلّص» أمريكي. الفرق فقط أن «سوبرمان» كان يخوض معاركه في رسومات الكوميكس، بينما «ترامب مان» حوّل العالم الحقيقي إلى مسرح لألعابه السياسية.
خذ على سبيل المثال الطريقة التي يتعامل بها ترامب مان مع الأزمات الدولية. أي نظام يبدو «متعبًا» بنظره يُعاد تصميمه فورًا، وكأن العالم كله تطبيق يمكن تحديثه بنسخة أمريكية جديدة. ومع استخدام الديمقراطية أحيانًا مجرد شعار يناسب المصالح، لكنها حيم تكون عديمة الجدوى ، فلا بأس من تفعيل خطة «نشر الفوضى الخلاقة»، وهي استراتيجية تعتمد على فكرة أن العالم يحتاج إلى «شوية شغب» لينضج.
والغريب في الأمر أن سوبرمان، ذلك البطل المخلص الذي نشأنا على قصصه، كان يقاتل الشرير ليعيد التوازن للعالم. أما ترامب مان، فهو يخلق الشرير بنفسه. إذا لم تجد عدوًا واضحًا، لا تقلق؛ سيتولى ترامب مان «اختراعه»، وستكون هناك تغريدة تخبرنا أن هذا الشرير يشكل تهديدًا للديمقراطية والسلام العالمي.
وإذا تساءلت يومًا عن مصدر قوة ترامب مان، فهو ببساطة... الميكروفون. هذا السلاح الذي لا يحتاج إلى ذخيرة، لكنه يطلق تصريحات تستطيع أن تفكك تحالفات دولية أو تعيد تشكيلها، يضع يده على الميكروفون ويصرخ: «أنا فقط أستطيع إنقاذكم!»، فيصدق الجمهور.
وفي كل هذه الفوضى، يقف سوبرمان بزيه الأزرق متأملًا، يتساءل إن كان عليه العودة إلى كريبتون. فمنافسه لا يحتاج إلى اللياقة البدنية أو القوى الخارقة؛ كل ما يحتاجه هو أزرار الهاتف وجرعة إضافية من الثقة المفرطة.
وربما، في النهاية، تكون القصة الحقيقية هي ليست عن «سوبرمان» أو «ترامب مان»، بل عن عالم اعتاد أن يرى نفسه دائمًا في دور الضحية، منتظرًا بطلًا يأتي لينقذه. فسواءً كان البطل يرتدي عباءة حمراء أو بدلة وربطة عنق، تظل النتيجة واحدة: تدخلات كثيرة، تغييرات أكثر، وضحايا لا يراهم أحد إلا في المشاهد الختامية.
وبعيدًا عن المقارنات التقليدية بين «سوبرمان» و»ترامب مان»، دعونا ننظر في تأثير هذه العقلية البطولية على المشهد الدولي. العقلية الأمريكية في تغيير الأنظمة ليست مجرد سياسات؛ إنها فيلم سينمائي طويل بميزانية ضخمة، والكارثة أن الجميع أُجبروا على لعب أدوار الكومبارس فيه.
هنا تصبح الدول الصغيرة، مجرد ديكور في الخلفية، تنتظر لحظة استدعائها لتكون ساحة المعركة الجديدة. ويضع القادة السياسيين في موقف يكون عليهم الزاماً إما أن يقبلوا دور «الأشرار»، أو يتحولوا إلى «الحلفاء»، لكن بشرط أن يرددوا الجمل المكتوبة في النص الأمريكي بحذافيرها.
أما الشعوب، فهم الجمهور الذي يُطلب منه التصفيق أو البكاء حسب المشهد. لكن، وبشكل كوميدي مؤلم، قد تجد هذا الجمهور نفسه فجأة جزءًا من القصة؛ فقد تتحول شوارعهم إلى مواقع تصوير مشاهد الأكشن، حيث الدبابات والطائرات تحل محل الكاميرات والمايكروفونات.
ترامب مان، أو أي نسخة أخرى من العقلية الأمريكية، يُتقن فنون تسويق «التغيير». يبدأ الأمر بتصريح درامي: «هناك أزمة إنسانية!»، يتبعه مشهد من البروباغندا الإعلامية تُظهر «الأبطال» وهم يهبّون للنجدة. وبالطبع، لا تسأل عن النتائج؛ لأن الفيلم ينتهي دائمًا قبل عرض المشاهد الختامية التي تُظهر ما تبقى من الأنقاض.
وإذا أردت فهم «المنطق» خلف هذا السلوك، ففكر في طريقة تفكير منتجي هوليوود: إذا كان الجمهور يحب قصص الإنقاذ، فلماذا لا نكررها؟ الفارق الوحيد أن النسخ الحديثة أصبحت بلا حبكة، وكأن المشاهد أصبح أقل أهمية من ميزانية الإنتاج.
وفي هذا الإطار، لا يسعنا إلا أن نلاحظ المفارقة الساخرة: سوبرمان كان يعمل بمفرده، بينما ترامب مان يحظى بجيش من المساعدين والمستشارين، لكن النتيجة دائمًا واحدة: العالم يحترق، بينما يجلس «البطل» أمام الشاشة ليشاهد المشهد بشغف.
ربما، في لحظة فلسفية نادرة، يمكننا أن نتساءل: لماذا تصر العقلية الأمريكية على أن تكون «البطل» حتى لو كان العالم يصرخ بأنه ليس بحاجة إلى بطل؟ الإجابة بسيطة: لأن القصة الأمريكية لا تُكتب إلا إذا كان فيها «شرير»، و»بطل»، ومشهد درامي ينتهي دائمًا بعبارة: «لقد أنقذنا العالم... مرة أخرى!»
والبطولة هنا وبحسب العقلية الأمريكية المهووسة بفكرة «البطولة»، ليست مجرد نزوة سياسية، بل هي نتاج تاريخ طويل من الأساطير الثقافية. الأمريكيون، ومنذ تأسيس دولتهم، أحبوا أن يروا أنفسهم كـ»المدينة المشرقة على التل»، رمزًا للأمل والنجاة. لكن من كان يتوقع أن يتحول هذا الحلم المثالي إلى نسخة منقلبة من أساطير الإغريق، حيث البطل ليس بالضرورة شجاعًا أو حكيمًا، بل صاخبًا ومندفعًا؟
ترامب مان، بصفته النسخة الحديثة من هذا «البطل»، يجسد روح العصر الحديث؛ عصر الـ»أنا» المتضخمة، حيث يكفي أن تملك منصة على الإنترنت وقاعدة من المتابعين لتتحول إلى صوت مسموع أكثر من الأمم المتحدة بأكملها. ومن المثير للسخرية أن «البطل» هنا لا يحتاج إلى قوى خارقة، بل إلى مهارة واحدة: القدرة على التحدث كثيرًا دون أن يقول شيئًا.
على الجانب النفسي، العقلية الأمريكية تنبع من فكرة «الاستثنائية». هذه الفكرة التي غُرست في الثقافة الأمريكية منذ نعومة أظفارها تجعلهم يعتقدون أن لديهم واجبًا أخلاقيًا (أو بالأحرى حقًا إلهيًا) في تصحيح مسار العالم. ومن هنا يبدأ كل شيء: التدخلات السياسية، الحروب، وحتى استغلال الأدوات الإعلامية لصنع قصص لا وجود لها سوى في خيال كاتب السيناريو.
أما ثقافيًا، فالولايات المتحدة، التي صنعت هوليوود ومفهوم السوبرهيروز، يبدو أنها قررت تطبيق قواعد الكوميكس على الواقع. «الأبطال» لديهم دائمًا زيهم المميز؛ سواءً كانت بدلة زرقاء أو ربطة عنق حمراء. والشرير دائمًا شخص معقد، ربما ليس شريرًا فعلًا، لكنه يخالف الرواية الأمريكية. حتى النهاية دائمًا معروفة مسبقًا: «الأبطال ينتصرون، والشرير يختفي، لكن بأسلوب يترك الباب مفتوحًا لتتمة جديدة.»
وبالعودة إلى مشهد العالم، نجد أن الجميع أصبحوا «مستهلكين» لهذا السرد. الدول تتقبل أدوارها في هذه المسرحية السياسية، بعضها راغب وبعضها مكره، والجماهير تصفق أحيانًا من باب اليأس، وأحيانًا لأنها اعتادت التصفيق لكل ما يُعرض أمامها.
وربما الكوميديا الحقيقية تكمن في هذا السؤال الذي لا يجد إجابة: هل يمكن أن يكون العالم سعيدًا إذا قرر الأمريكيون أن يأخذوا استراحة من «البطولة»؟ أم أن هذه الراحة نفسها ستبدو وكأنها «مؤامرة» جديدة؟
ترامب مان وفي لحظة تأمل عابرة، قد يجلس على كرسيه الذهبي، ينظر إلى خريطة العالم المعلقة على الحائط، ويفكر: «ماذا سأفعل اليوم؟» هل سيُسقط نظامًا هنا، أم سيصنع تحالفًا هناك؟ هل يقرر أن يغرد عن خططه أم يرسل تغريدة غامضة تترك الجميع في حالة من الذعر؟ إنه بطل عصري لا يحتاج إلى خطة، لأن الفوضى هي الخطة، لكن المفارقة الكبرى هي أن العالم يبدو وكأنه اعتاد هذا النوع من العبثية البطولية. الشعوب تفتح التلفاز لتشاهد نشرات الأخبار وكأنها تتابع مسلسلاً جديدًا. القادة يتظاهرون بالقلق أمام الكاميرات، لكنهم في سرّهم يرسلون رسائل إلى «ترامب مان»: «هل يمكننا أن نحظى بدور أصغر في فيلمك القادم؟ نحن مستعدون لاتباع النص، فقط لا تجعلنا الشرير الرئيسي.»
والسؤال الذي يبقى معلقًا في الهواء كغيمة كثيفة: هل يمكن أن يستمر هذا المشهد إلى الأبد؟ أم أن «العقلية الأمريكية» ستجد نفسها يومًا ما محاصرة بحقيقة أن العالم لم يعد يحتاج إلى أبطال مزيفين؟ ربما في لحظة ما، يقرر سوبرمان الحقيقي العودة من تقاعده الطويل، ويقف أمام ترامب مان قائلاً: «يكفي! العالم يحتاج إلى بطل حقيقي.»
لكن حتى هذه الفكرة تبدو خيالية؛ لأن سوبرمان، على عكس ترامب مان، يحتاج إلى تبرير أفعاله بالأخلاق والمنطق، بينما ترامب مان لديه شعار بسيط: «إذا كان الأمر مفيدًا لي، فهو صحيح.»
وفي النهاية، قد تكون الحقيقة الأكثر سخرية هي أن العالم بأسره لم يعد يعرف كيف يعيش بدون «الأبطال الأمريكيين». هذا الاعتماد المرضي على فكرة الخلاص الخارجي جعل الجميع ينسى أن الحل الحقيقي قد يكمن في الداخل، في قدرة الشعوب على كتابة سيناريوهاتها الخاصة دون الحاجة إلى مخرج أمريكي.
لكن، وبكل واقعية، من يريد قصة منطقية عندما تكون القصص الفوضوية أكثر إثارة؟ ولهذا، قد يظل ترامب مان وأمثاله في دائرة الضوء، مادامت الشعوب تحب التصفيق، ومادام «البطل» مستعدًا للظهور، سواء بربطة عنق حمراء أو تغريدة جديدة.
حين ندرس بعمق جذور هذه العقلية الأمريكية البطولية، نجد أن المسألة ليست مجرد سياسة أو اقتصاد، بل هي فلسفة قائمة على تصدير الذات كـ»مركز الكون “،فالولايات المتحدة ومنذ نشأتها، بنت سرديتها الوطنية على أسطورة الأرض الموعودة، الأرض التي تجمع الشعوب وتحررها، لتصبح هذه الفكرة أشبه بعقدة نفسية جماعية تجعلهم يرون العالم كمرآة تعكس عظمتهم أو كخشبة مسرح ينتظر أبطالهم عليها التصفيق.
وهذا تطور طبيعي لفكرة «القدر المُعلَن» (Manifest Destiny) التي شجعت على التوسع غربًا في القرن التاسع عشر، لكن الاختلاف الآن يكمن في أن الحدود لم تعد جغرافية فحسب، بل أصبحت ثقافية، سياسية، وأيديولوجية، والعقلية الأمريكية ترى العالم كقصة ناقصة لا تكتمل إلا بتدخلهم. وكأن كل دولة هي «مشروع» ينتظر يد العم سام لتعيد تشكيله وفق «الرؤية الأمريكية».
ومن هنا ينبثق السؤال الفلسفي: هل هذه العقلية نتاج قوة حقيقية، أم أنها قناع يغطي هشاشة داخلية؟ فالأبطال الحقيقيون لا يصرخون «نحن الأبطال!» بل يثبتون ذلك بالأفعال. أما العقلية الأمريكية، فتبدو وكأنها مهووسة بتذكير الجميع بدورها، وكأنها تخشى أن تُنسى.
إن فكرة «إنقاذ العالم» بجذورها السيكولوجية ليست إلا محاولة للهروب من مواجهة الداخل، فمشاكلهم الداخلية أكبر من أن تُحل، وهنا لابد من التركيز على الخارج ليكون وسيلة للتنفيس عن الإحباط الجماعي، فالخطاب البطولي الذي يروّجه «ترامب مان» ليس إلا مرآة تعكس قلق أمة تبحث عن معنى في فوضى عالمها الداخلي.
وربما تكون الكوميديا الأكثر مرارة في هذا المشهد هي أن العالم نفسه قد أصبح مدمنًا على هذه «البطولة الزائفة». الشعوب التي تتظاهر بالاحتجاج على التدخلات الأمريكية تجد نفسها، بوعي أو بغير وعي، تنتظر من «البطل الأمريكي» أن يظهر عندما تسوء الأمور،وكأن العالم بأسره عالق في حلقة مفرغة من التبعية المريحة، تلك التي تجعلنا نلوم «الأبطال»، لكننا لا نرفض مساعدتهم عندما تسوء الأمور حقًا.
وهنا، قد نصل إلى لحظة تأمل صادقة: هل نحن، كعالم، مستعدون للتخلي عن هذه الفكرة البطولية؟ أم أن «ترامب مان» وسلالته سيظلون أبطالًا ليس لأنهم الأقوى، بل لأننا نحن من اخترعناهم، ولأننا نخشى مواجهة واقعنا دون قصة خارقة نلقي عليها اللوم أو نعتمد عليها في لحظات الضعف؟
إن «ترامب مان» لم يحاول أبدًا إخفاء عيوبه ،وانما قدمها كجزء من قوته،وهذا ما جعله رمزًا فريدًا في السردية الأمريكية وكأن الرسالة الضمنية هي: «أنا نسخة منكم، بكل تناقضاتكم».
وقد وجدت هذه الصراحة الفجة صدى واسعًا في مجتمع يغرق في الاستهلاك الإعلامي، حيث لا يُطلب من «البطل» أن يكون مثاليًا بقدر ما يُطلب منه أن يكون «مسليًا».
لكن، لو تعمقنا أكثر في طبيعة هذا «التسلية»، سنجد أنها ليست مجرد عرض هزلي، بل هي انعكاس لفكرة قديمة تتكرر عبر العصور: الشعوب تحتاج إلى أبطال ليس فقط لحل الأزمات، بل أيضًا لإضفاء معنى على فوضى الحياة والأبطال، حتى المزيفون منهم، يمنحون الجماهير إحساسًا بالسيطرة، حتى لو كانت السيطرة وهمية.
ومع ذلك، هناك نقطة تحوّل خطيرة هنا. ففي الوقت الذي يتحول فيه العالم إلى مسرح سياسي مفتوح، تصبح «العقلية الأمريكية البطولية» أشبه بمسرحية عرائس، حيث تُسحب الخيوط من وراء الكواليس. ترامب مان لم يعد شخصية فردية، بل أصبح رمزًا لنظام كامل يبرر أفعاله بحجج «إنقاذ العالم» بينما يترك خلفه عاصفة من الفوضى.
هنالك سؤال أخلاقي عميق يفرض نفسه بقوة:هل ان هذا الهوس الأمريكي بـ»التدخل» يمكن أن يُبرر باعتبارات أخلاقية؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه رغبة في فرض الهيمنة؟ وهل يمكن أن نقول إن «سوبرمان» كان أكثر أمانة عندما واجه أعداء واضحين، بينما «ترامب مان» يتلاعب بالجميع تحت شعار «صنع السلام»؟
وتجعلنا هذه الازدواجية في العقلية الأمريكية – بين ادعاء البطولة وخلق الأزمات – نتساءل عن مستقبل النظام العالمي. هل سيأتي يوم تقرر فيه الشعوب كتابة قصصها الخاصة؟ أم أننا سنظل أسرى هذه الدوامة، حيث يتحول كل رئيس أمريكي جديد إلى نسخة من «ترامب مان» ببدلة جديدة؟
وربما السؤال الأهم هنا ليس عن ترامب مان بحد ذاته، بل عن «العقلية الجماعية» التي تسمح بوجوده، وهل نحن كمجتمعات عالمية نستمتع بهذا العرض لأنه يعفينا من مسؤولية تغيير أنفسنا؟ هل نحن مدمنون على الأبطال المزيفين لأنهم يمنحوننا عذرًا مريحًا لعدم مواجهة حقائقنا؟
في النهاية، ربما تكون السخرية الحقيقية هي أننا ننتقد العقلية الأمريكية، لكننا في الوقت ذاته ننسخها. كل أمة تبحث الآن عن «ترامب مان» الخاص بها، بطل يقودها إلى مجد زائف، بينما تهرب من مواجهة حقيقة أن الحلول لا تأتي من الخارج، بل تبدأ من الداخل.