اغتيال أم انتحار؟
مدير الشرطة العام وصلته بمصرع الملك غازي
أكرم عبدالرزاق المشهداني
في الساعة التاسعة من صباح يوم 4 نيسان 1939 فاجأت الحكومة الشعب العراقي بإعلان نبأ مصرع ملك العراق غازي الأول في حادث سير، من خلال بيان أذيع من دار الإذاعة وذلك إثرَ اصطدام سيارته التي كان يقودها بنفسه بعمود الكهرباء في منطقة الحارثية قرب قصر الزهور.يروي العميد عدنان محيي الدين (1) نقلاً عن والده المرحوم محيي الدين عبدالرحمن معاون شرطة السراي في الثلاثينيات ذكريات الحادث الأليم، قائلاً: ((لما تمَّ الكشف على محل الحادث بإشراف حاكم التحقيق الخفر نظم محضر الكشف وتم التوقيع عليه، وأرسل إلى مدير الشرطة العام السيد هشام العلوي لغرض وضع توقيعه عليه باعتباره المسؤول الأول عن الشرطة، ومحضر الكشف يخص سيد البلاد، ولكن المرحوم هاشم العلوي رفض التوقيع وقال إنه لو صحّت رواية اصطدام السيارة بالعمود لوقع على رأس الملك من الأمام وليس من الخلف)).((هذا القول وصل إلى مسامع المسؤولين وعلى رأسهم الأمير عبد الإله، فأمر بإرسال مدير الشرطة العام هاشم العلوي في إجازة إجبارية للراحة إلى خارج العراق (لبنان) فكان لابد للعلوي من الانصياع للأمر، وسافر عن طريق الرطبة، وعندما ذهب سائقه لتأشير جواز سفره وعائلته بجوازات الرطبة، ظهر عريف عسكري شاهراً مسدسه حيث أطلق عيارات نارية على المرحوم فأرداه قتيلاً)). وهي رواية انتشرت لكن لا توجد وقائع وأدلة تثبتها. ثم أشيع في بغداد أن العلوي انتحر لأسباب شخصية لا علاقة لها بالوظيفة، أما العبد وزميله المدعو علي عبد الله فقد تواريا عن الأنظار ولم يظهر لهما أي أثر، وتم الطلب من حاكم التحقيق المختص غلق التحقيق، وهكذا أسدل الستار على هذه القضية وتركت للتاريخ.والفريق هاشم العلوي هو من شخصيات الشرطة البارزة في تاريخ العراق الحديث، وفي تاريخ الشرطة العراقية كان (مدير الشرطة العام) لمرتين: الاولى من عام 1935 ولغاية 1936 والاخرى من بداية 1939 ولغاية وفاته مساء يوم 10 تموز 1939. يقول عبد الرزاق الحسني المؤرخ العراقي الشهير في كتابه تاريخ الوزارات العراقية(2): (انتحر مدير الشرطة العام السيد هاشم العلوي وهو في الرطبة بطريقه مع عائلته إلى لبنان للاصطياف، فأسِفَ الجميع على نبله وكرم خلقه وظروف مقتله، ولاسيما بعدما أشيع عن إلمامه بأسرار مقتل الملك غازي والخوف من أن يبوح بسر من الأسرار). (جـ/5، ص1939).علماً أن نوري السعيد كان قد سافر صباح اليوم نفسه 10/7/1939 إلى لبنان لتهيئة وسائل الراحة وإعدادها لاصطياف الملك الطفل فيصل الثاني الذي سافر في اليوم التالي 11/7 إلى لبنان للاصطياف.يقول صديقنا الباحث المعروف أنور عبد الحميد الناصري بكتابه (سوق الجديد): (3) (لقد اختلفت الأقوال في مقتل العلوي، فالحكومة بثت بياناً بأن مدير الشرطة العام قد انتحر وهو في طريقه إلى الشام، ولكن موت مدير الشرطة العام بحادث غامض ليس أمراً يُعْقَدُ عليه التصديق بسهولة، فقد ظلَّ الهمس همساً ثم بدأ يعلو، إلا أن علوّه وصل إلى أدنى مرتبات النطق والجهر). لقد قيل إن الرجل قد أمسك ببعض خيوط مقتل الملك غازي فأراد كل من الوصي عبدالآله ونوري السعيد التخلص منه، خاصة وأن السيد العلوي من خلصاء الملك غازي، وكان الملك غازي يناديه دائما بـ (يا خالي) لكونه (سيداً علوياً).
انتحار مجهول
وكانت الأسئلة التي تدور:
لماذا اختار العلوي منطقة الرطبة لينتحر فيها بعيداً عن داره وكان بإمكانه أن ينتحر في داره أو دائرته؟ وهل من المعقول أن يتكلف المنتحر وضع يده ليوجه الرصاصة نحو منتصف جبينه؟يقول صديقنا الباحث الكرخي (أنور الناصري): (طافت الإشاعات والأقوال في كل مكان، حتى قيل إنه أجبر على الإجازة، وهذه الرواية تتفق مع ما ذهب إليه المرحوم محي الدين عبد الرحمن في مذكراته المنشورة بمجلة الشرطة، وقد حدثني م. ج أنه كان يعمل محاسباً في شركة بيت إهميّم وذهب إلى الرطبة لتفقد أعمال الشركة، وهناك أشاروا له إلى رجل يميل لونه إلى السواد قالوا عنه إنه هو الشخص الذي قتل هاشم العلوي).
الصحف تنعى هاشم العلوي:
كتبت صحيفة الاستقلال بعددها 3399 في 13 تموز 1939: (4) ((فُجِعَ العراق مساء أمس الأول بوفاة المرحوم السيد هاشم العلوي مدير الشرطة العام في أثر انفعال نفساني، وكان لمنعاه صدى توجّع شديد وأسف عميق في جميع الأوساط العراقية، وتألمت النفوس وبكتهحُزناً وحسرة عليه، وذلك لما عُرف به سعادته من أخلاق فاضلة ونزاهة مشهودة وحسن سريرة، وإخلاص للواجب وتفانٍ في سبيل بلاده وخدمة وطنه)).وكتبت صحيفة البلاد في 13/7/1939: (5) ((في نبأ تلفوني من الرطبة وصل بغداد مساء أمس أن سعادة السيد هاشم العلوي مدير الشرطة العام قد انتحر في الرطبة بمسدس كان في يده فأرداه في الحال بعد أن وصلها هو وأفراد أسرته وأخوه الأستاذ قاسم العلوي المحامي في طريقهم إلى لبنان للاصطياف وقضاء إجازة أمدها ثلاثة أشهر هناك. ولم تعرف الأسباب من هذا الانتحار لكن المتصلين به قد شعروا في الأيام الأخيرة أن صحته أصابها انحطاط وضعف أعصاب)).
وأضافت (البلاد): ((لقد كان الفقيد رحمه الله من الرجال المتمتعين بحسن السمعة لما اتصف به من مكارم الأخلاق والسجايا الطيبة)). ورثاه الاديب إحسان الناصري في جريدة (الاستقلال) البغدادية يوم الأول من آب 1939 بقصيدة، ننشرُ بعض أبياتها برغم اعتلال بعضها وزناً عروضياً وتعبيراً: (6)أسفاً على الخلق الكريم وأهله….أسفاً على رجلِ الإدارة هاشمِ
عفٌ وديعٌ عالمٌ متأدبٌ ….خُلُق المحب وســــــــــــــــيرةٌ بمكارم
العمر محدود وعيشك غصة….وقطُّ حذار المرء ليس بعاصم وقال:
((لقد قرأت في أخبار بغداد خبراً طارت نفسي له جزعاً، نعم فقد قرأت نعي السيد هاشم العلوي مدير الشرطة العام… فيا للوعة و يا للخسارة… و يا للحزن العميق !… ولئن مات العلوي فإن ذكراه لن تموت فستبقى أبداً خالدة مقرونة بالفضل والإخلاص النزيه)).
صلة الانتحار بمقتل الملك غازي:
قيل إن المرحوم السيد هاشم العلوي هو من أقرب المقربين إلى الملك غازي، وقد فجع لوفاته، وعرف أسراراً عن تدبير اغتياله وكانت له مواقف مشهودة منها رفضه تصديق محضر الكشف الجاري لمحل الحادثويروي المرحوم عبد الجبار الراوي في مذكراته (7): ((إن السلطة كانت تحيك مؤامرة للحد من تصرفات الملك غازي ومراقبته ومنها الطلب من مدير الشرطة العام تدبير مكيدة (قانونية) لتوقيف سائق المدعو (إبراهيم) إلا أن العلوي رفض ذلك بشدة)).وقد روى المؤرخ عبد الرزاق الحسني (جـ5، ص 85) من تاريخ الوزارات (8) ((إن التحقيق في مصرع الملك غازي كان قد أسند إلى الحاكم المعروف سليم الديملاني، وبعد أن سار في التحقيقات طويلاً حضر نوريالسعيد رئيس الوزراء ووزير عدليته محمود صبحي الدفتري فأجبرا الديملاني على التنحي عن مهمته، وعهدا بالتحقيق إلى الحاكم خليل أمين المفتي الذي (لفلف) التحقيق، كما يقول البغداديون!)).(وللمرحوم أمين المميز رواية وتفسيرٌ آخر !!): (9)يقول المرحوم أمين المميز في رد منشور بمجلة آفاق عربية البغدادية بعددها 12 لشهر آب 1983:
((ليس لانتحار السيد هاشم العلوي أية علاقة بمصرع الملك غازي لا من قريب ولا من بعيد وأنه قد سمع بالخبر كما سمعه غيره من المسؤولين وغير المسؤولين فجر يوم 4 نيسان 1939)).وتطرق المرحوم المميز إلى السبب الذي يراه (من وجهة نظره) وهو الدافع للانتحار وهو أن شقيقه (عبد الستار عبد الجبار المميز) قد عقد قرانه على كريمة السيد هاشم العلوي يوم 13 مايس 1938.. وحين اكتملت مراسيم الخطبة والقران وفق التقاليد المرعية استعداداً للزفاف، أخذ المرحوم هاشم العلوي يماطل ويتردّد ويؤجل تنفيذ موعد الزفاف لأعذار مختلفة. فازداد عليه الضغط من أفراد عائلته والأصدقاء والأقارب، وقرر العريس عبد الستار المميز الإقدام على رفع دعوى المطاوعة، إلا أن المميز سمع خبراً عن طريق النساء بأن السيد هاشم العلوي سيسافر مع عائلته إلى لبنان للاصطياف وأن إجراءات الزفاف ستتم بعد عودتهم. وفي 10 تموز 1939 سافر إلى لبنان، وفي طريقه وتحديداً بمنطقة الرطبة حيث نقطة الجوازات العراقية، اختلى بنفسه في غرفة الاستراحة في قلعة الرطبة لتأدية الصلاة، وفي غفلة من عائلته أطلق النار على نفسه من مسدسه الشخصي الذي يحمله وتوفي في الحال وعادت العائلة مع الجثمان إلى بغداد.
رجال العراق
رحم الله الملك غازي ورحم الله الفريق هاشم العلوي.. ورحم كل رجال العراق الأحرار.
“1”: عدنان محيي الدين عبدالرحمن مدير شرطة متقاعد مقالة في مجلة الشرطة العراقية 1998
“2”:عبد الرزاق الحسني: تاريخ الوزارات العراقية الجزء الخامس ص 1939
“3”: أنور عبدالحميد الناصري: كتاب سوق الجديد الجزء الأول
“4”: صحيفة الاستقلال بعددها 3399 في 13 تموز 1939
“5”: صحيفة البلاد في 13/7/1939
“6”: إحسان الناصري في جريدة (الاستقلال) البغدادية يوم الأول من آب 1939
“7”: عبدالجبار الراوي: مذكرات عبدالجبار الراوي
“8”: عبدالرزاق الحسني تاريخ الوزارات العراقية ج 5 ص 85
“9”: أمين المميز في رد منشور بمجلة آفاق عربية البغدادية بعددها 12 لشهر آب 1983:
عن مجموعة واتساب