بعد فشل الإسلامويين هل يتلقّفها العلمانويون؟ (2)
منقذ داغر
ملاحظة:هذا المقال محاولة لفهم ما جرى وليس أنتقاداً ولا تبنياً لأي فكر أو محور سياسي.
تعد السياسة ركناً أساسياً من أركان الفقه الشيعي الذي تعود جذوره التاريخية لرفض مقررات سقيفة بني ساعدة وما نجم عنها من تسمية أيو بكر الصديق خليفةً للمسلمين. من هنا باتت الإمامة المنصوص عليها نصاً-وهي مفهوم سياسي بحت- أحد أعمدة الفقه الشيعي وركناً أساسياً للأيمان به، بعكس الفقه السني. لقد ساهم ذلك التأسيس للسياسة في قلب الفقه الشيعي في تقليل حجم التباينات في الرؤى السياسية بحيث لم نشهد ذات الأنقسامات والتيارات المتباينة التي شهدها الفكر السياسي السني كما تم شرحه في المقال السابق.
كما أن شعور الشيعة بحاجتهم القوية للتماسك تجاه منافسيهم الأكثر عدداً(السنة) ساهم هو الآخر في تقليل التيارات المتباينة في الفكر السياسي الشيعي الذي ظلت الإمامة محوره الأساسي لحين ظهور الأبتكار الولائي من قبل الخميني. هذا لا ينفي وجود تفاصيل مختلف عليها بين الفرق الشيعية الرئيسة (الأمامية والزيدية والأسماعيلية) حول من هو الأمام لكن الفكرة الأساسية للإمامة واحدة، كما أن حقيقة كون الإمامية يمثلون الغالبية العظمى من الشيعة قلل كثيراً من أهمية تلك الإختلافات. وحتى حين برز الخلاف السياسي الشهير ضمن الإمامية بين ما سمي بالمشروطة (أو الدستوريون) والمستبدة (اللادستوريين) في بداية القرن العشرين في النجف فأنه سرعان ما انتهى هذا الخلاف بانتصار المشروطة. مع ذلك فقد كانت هناك محاولات لتأسيس جمعيات أسلامية وحزب في بدايات القرن العشرين في النجف لم تحقق نجاحاً وأستمرارية.غير أن أهم حزب أسلامي شيعي (الدعوة) لم يظهر الا في نهاية الخمسينات من القرن الماضي مع أن هناك خلاف شديد في سنة تأسيسه وهل هي قبل ثورة تموز 1958 أم بعدها!! لا بل أن بعض الباحثين يعتقدون أن ظهور حزب الدعوة في العراق لم يكن أستجابةً لآيدلوجية فكرية بقدر ما كان محاكاةً للأخوان المسلمين في مصر بعد أن شعر الأسلامويون الشيعة لحاجتهم لحزب سياسي يوحدهم ويحميهم في مواجهة الأنتشار الواسع خلال الخمسينات والستينات للأفكار الماركسية الأممية من جهة، والقومية العربية من جهة أخرى بين شباب العراق. ومعلوم أن كلاً من التوجهين الفكريين (الأممي والقومي) يمثلان تحدياً كبيراً للفكر الأسلاموي بخاصة بين طائفة تعتمد على الفكر الديني الموروث للحفاظ على كيانها وتواجدها وديمومتها.
وليس خافياً أن أعتناق الشباب الشيعي للفكر العلماني (الأممي أو القومي) سيذيب شخصيتهم الطائفية ويهدد تماسك المذهب بخاصة في ظل شعور تاريخي بالمظلومية والحرمان السياسي لأبناء الشيعة، وطموح تاريخي دائم لاستلام السلطة. ثم أن وجود أحزاب سياسية شيعية ساعية للسلطة في بلدانها قد يحد من سلطات المرجع الأعلى وينافسها بخاصة فيما يتعلق بالسياسة. ولذلك لا تجد مثلاً أي وجود لحزب أسلامي في إيران حالياً. ولعل هذا ما يفسر الموقف المتحفظ أو غير المتحمس لمرجعية النجف تجاه تأسيس الحزب الجعفري في 1952 ثم حزب الدعوة بعد ذلك. وحتى حزب الله، الذي يبدو كتنظيم مسلح أكثر منه حزب سياسي تقليدي فأن سر نجاحه وديمومته في لبنان كانت مرجعيته الفكرية للمرشد الإيراني وطاعته المطلقة له.فالمراجع الدينية عند الشيعة تمتد ولايتهم لتشمل السلطة السياسية أيضاً.
لقد جاء التطور الفكري السياسي الأهم ،منذ تأسيس المذهب الشيعي، على يد الإمام الخميني الذي قاد ثورة فكرية نقلت الإسلام السياسي الشيعي نقلة نوعية، حتى وإن لم يتفق معها كثير من علماء ومراجع الشيعة،وفي مقدمتهم مراجع النجف. لقد وجد الخميني أن أنتظار ظهور المهدي يترك فراغ سياسي مضر،يجب ملؤه بوجود ولي فقيه ينوب عنه يتولى واجباته الأجتماعية والسياسية والأقتصادية لحين ظهوره.
شؤون سياسية
هذا الولي الفقيه يلعب دور الفقيه المجتهد في قيادة الأمة الإسلامية، ليس فقط في الأمور الدينية، ولكن أيضًا في الشؤون السياسية والاجتماعية. الولاية تعني عند الخميني أن الفقيه له الحق في قيادة المجتمع الإسلامي وتطبيق الشريعة لضمان تحقيق العدالة والنظام.
كما أنها تعني سلطة سياسية عليا لا يمكن تحديها أو مخالفتها من قبل أي سلطة أخرى.
وهذا مفهوم يختلف كلياً عن الفكر التقليدي الشيعي الذي كان يتعامل مع السلطة ،في أي بلد يتواجد فيه الشيعة، باعتبارها شيء يمكن التعاون معه أحيانًا وتجنبه أحيانًا أخرى بحسب الظروف.
بمعنى أنه صار لزاماً أن يستلم السلطة عالم فقيه ولي لا تتجاوز سلطاته فقط السلطات السياسية في بلده ،بل تتجاوز أيضاً سلطات المراجع الدينية التقليدية في ذلك البلد.
لقد تشابه الفكر السياسي الشيعي بشقَيه الحزبي والولائي مع الفكر السياسي السني في أممية المشروع وعُلويته على المفاهيم الوطنية وفي أنه يجب محاربة الظالم لأقامة تلك الدولة-الأمة. غير أن الاختلاف-غير الظاهر- بين الأثنين هو في تحديد مفهوم الأمة ومفهوم السلطة. فهل الأمة هي الطائفة أم كل المسلمين بمختلف طوائفهم؟ وهل السلطة هي الولي الفقيه أم السلطة بمختلف تفريعاتها وتمظهراتها في التيارات المختلفة؟ كما أن الفكران يؤمنان بمفهوم دار الأسلام ودار الحرب لكنهما يختلفان فيما بينهما (وداخلياً أيضاً) في أولوية دار الحرب(العدو) فهل هو العدو القريب داخل بلاد المسلمين من سلطات ظالمة ومتعاونة مع قوى الأستكبار العالمي، أم العدو البعيد الذي يمثل العقل المتآمر على الأسلام والمسلمين.
وفي الوقت الذي بدأ فيه الأسلام السياسي الشيعي بمهاجمة العدو القريب في العراق(قبل 2003) وأيران (الشاه)، كما فعل الأخوان المسلمون ثم جماعة التكفير في مصر،فأنه سرعان ما طور أولوياته مثلما فعل أسلامويو السنة،لتركز على العدو البعيد (أمريكا وقوى الأستكبار العالمي). هنا بدأت مرحلة جديدة في حياة الأسلام السياسي الشيعي الذي أنتقل من مرحلة الجهاد المحلي الى مرحلة الجهاد الدولي التي سنفرد لها مقالاً مستقلاً لاحقاً.