قلت لبائع الشاي، أنت من أي مواليد يا عيسى فأجابني وهو يقوم بكيل خلطات الشاي بالهيل( هو بائع بالجملة لتلك الخلطات في منطقة الصدرية) أجابني باختصار( ثمانية ) ففهمت أنه من مواليد 1948، أضفت قائلا، هل تعلم أنني أعرفك منذ خمسين سنة، رفع رأسه وحدق بي بعينيه الجاحظتين الكبيرتين مثل عيون المجسمات السومرية والمحاطتين بكيسين دهنيين داكنين وقال معقولة وأنا أيضا أقول أين رأيت الحجي، وطلب من بإلحاح وكذلك فعل شريكه الشاب في الدكان بأن أقول لهما أين وكيف تعارفنا، رفضت قائلا أخبرتك مرة ولن أكررها.
مازلت أتذكر القصة القصيرة للكاتب بورخيس وهو يحكي عن صاحب المركب الأرجنتيني والذي لا يتذكر فقط كل ركابه بل وحتى ماذا كانوا يلبسون وعدد ضربات المجداف التي لزمت لإيصالهم ووجهاتهم وحتى شكل القمر إذا كان ذلك في الليل وكيف كانت الرياح وحتى ما كشفت هذه الرياح من سيقان الراكبات إذا كن نساء وحين تعبث هذه الريح بتنوراتهن فالذاكرة متعبة ومكلفة والنسيان نعمة كما يقولون ولا يدري من ينسون كم نحن نحبهم إذا ما كانوا مدفونين موتا أو ذاكرة، لكن الذاكرة والنسيان عندي ثيمتان للشجاعة والخوف فالخوف يرادف الذاكرة والشجاع هو الذي ينسى، من العادي أن يتذكر المريض طبيبه لكن الغريب أن يعرف ويتذكر هذا الطبيب كل مرضاه ومن غير المعقول أن يعرف القبطان كل المسافرين أو يعرف المرياع كل القطيع.
وقبل العودة لعيسى بائع الشاي، سأتحدث عن ضياء الذي أقول دائما أنه يشبهني وهو لا يشبهني والذي أصادفه بين الفينة والأخرى فأرى في وجهه نفسي وأخمن وحدة مصيرينا، حتى عرفت مضاربه فهو يوم الجمعة في قشلة المتنبي وفي السبت في مقهى( تتنجي) حديثة التطوير في ساحة الشهداء وفي بقية الأيام بين مقهى الشابندر أو الزهاوي.
لا تربطني بضياء علاقة قوية غير ما افترضه من سوء حظ مشترك. في منتصف عقد التسعينات أضفت مغامرة لمغامراتي التجارية بأن اشتريت دكانا لبيع قطع غيار السيارات في ( فلكة 83)، كنت أتردد على أصدقاء هناك ومن بينهم كاكا فريدون أبو علي وهو يقرأ ثرثرتي هذه مقاوما مرض السرطان الذي أكل أحشاءه في مسكنه الجديد في أربيل.
فريدون كان تاجرا صعب المراس ومتمكنا من عمله لكنه قرر الهجرة هو وعائلته مثل بقية العراقيين الذين كانوا يحلمون بالخلاص من الحصار والقمع وقتذاك فأقدمت على شراء دكانه رغم جهلي بهذا الكار وأصبحت أتردد عليه عصرا بعد انتهاء عملي في السوق العربي، وكان جاري على ميمنتي دكان مختص ببيع قطع غيار سيارات داتسن وكان صاحبه ضياء هذا ويعاونه أو يشاركه شخص دمث يشبه ديستن هوفمان وكنيته أبو أحمد وأصولهما ومشاربهما تختلف عن بقية أهل المنطقة وأصحاب الدكاكين وعلى ما يبدو كان ضياء ضابطا في الجيش وقد تقاعد نهاية الحرب مبكرا لأمر ما ولم نستمر في محلينا، أنا وضياء، ضياء أجبره مالك العقار على إخلاء دكانه من غير تعويض استقواء لأنه غريب على نسيج تلك البيئة كما قلت وأنا وجدت الأمر عبثا وتشتيتا لي فبعت الدكان من غير خسارة ولا ربح وما أن تركنا المكان حتى انفجرت أسعاره وتضاعفت ولابد من الذكر أن كاكا فريدون فشل في مسعاه وعاد خائبا بعد أن باع كل شيء، دكانه وبيته وكل متعلقاته ولن أنسى مكابرته و جلده عندما عاد لمكانه ولكن هذه المرة بعربة متنقلة أو كشك على الرصيف المقابل لدكانه القديم مختصا ببيع أحزمة الدوران والسرعة ( القوايش ).
من الممكن القول أن تدهور أحوالنا أخذ بالتتابع حيث بدأ بفريدون ومن ثم ضياء وانتهى بي متدحرجا ومقذوفا من القمة وأصبحت أراقب ضياء من بعيد وكذلك صديقه أبا أحمد وقد ساعد ذلك أننا نقطن محلتين متجاورتين، الداوودي والمنصور.
طوال تلك العقود الأربعة أو الثلاثة لم تزدد قامة ضياء الممشوقة حفنة شحم بل ولم يغير قميصه ( تي شيرت ) فاتح اللون بخط عريض من لون مغاير، وأول سنوات ما بعد عام 2003 سنحت لي صدفة مباركة بأن أكتري سيارة خصوصي تعمل بالأجرة ومن موديل داتسن 1980 بيضاء وكم فرحت عندما كان السائق ضياء نفسه ولما حييته بقوة رد بحياد، لم يعرفني أبدا، رغم هذا تبادلنا حديثا مرا بين متعوسين كأن قطار الحياة دهسنا بقوة وترك نفس البصمة علينا وهكذا كان علي أن أراقب ضياء الذي يشبهني من غير أن يعرفني.
بعد أن غادرت عيسى بائع الشاي وإفراغي لحمولتي ذهبت لشأن آخر قرب ساحة الشهداء وفي عطفة سوق الشواكة أصبحت وجها لوجه مع ضياء بنفس قامته التي لم تكسب شحما ونفس تيشرته باهت اللون وبخطه العريض وكأنه علامة لثبات وقتامة ذات المصير، حدقت بوجهه، لم يشخ لكنه انتفخ انتفاخا مرضيا فقرصني قلبي، لم يعد ضياء يشبهني وبلا وعي هتفت ( هلو ضياء شلونك زين خو ما مريض ) فأجابني متفاجئا، هلو عيني لا لا ماكو شي، لم يعرفني ضياء بالطبع لكنه لم يعد يشبهني، أحدنا تحرر من مصيره و بؤسه.
أما عيسى فتعود معرفتي به إلى منتصف عقد السبعينات عندما كنا، أنا وأخي ندير دكانا لبيع بطاقات اليانصيب، ورغم كراهيتي لهذا العمل فمازالت ذاكرتي تحتشد بأرقام البطاقات الفائزة بالجائزة الأولى ورابحيها وباعة اليانصيب الذين نزودهم بحصصهم وحتى الزبائن العابرين وكذلك المدمنين مثل عيسى الذي أعترف لي بعد خمسين عاما أنه ربح الجائزة الثانية منا فاشترى بها بيتا لكنه لم يخبرنا بذلك وقتها وعلى كل حال لن أخبر عيسى بتاريخ معرفتي به وليهنأ الشجعان بنسيانهم وسأظل مطاردا بخوف ذاكرتي. بالمناسية..فريدون مواليد 1950 وضياء 1951.