الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الإيمان أكبر من الخوف

بواسطة azzaman

الإيمان أكبر من الخوف

لويس إقليمس

 

اقترنت حادثة قاعة العرس في بلدة قرقوش/ بغديدا بمحافظة نينوى في عراقنا المتألم، التي وقعت مساء يوم 26 أيلول 2023،  بسمات عديدة، لعلَّ أقواها وأكثرها تفاعلاً ما كان له تأثيرٌمباشر على الحياة اليومية للمواطن «الباغديدي» خاصة والمسيحي في عموميّاته. ومن هذه السمات، سمة الخوف، أولاً من المستقبل الغامض والمصير المجهول الذي ينتظر أبناء هذه البلدة التي وقعت في شباك الطامعين العديدين بوضعها الراهن وفي طبيعة أهلها ومنطقتهم المتميزة في العديد من الصفات عن سائر بلدات سهل نينوى بل والعراق، شعبًا وأرضًا وأخلاقًا وسلوكًا وعلمًا وأدبًا ونظافةً وحبًا للأرض والوطن والشعب، بكلّ ما تعنيه هذه جميعًا. إلى جانب الخوف من الدخلاء الطامعين والغرباء المتربصين بأهاليها وبممتلكاتهم وبقدراتهم البشرية المتميزة عن غيرهم من قرى الجوار وبلدات المنطقة وعموم البلاد. وفيما نجد الإيمان المسيحي بسمته الروحانية السامية يقف على عتبة أخرى من فكر وتدبير وسلوك فئات كثيرة أبدت تعلّقًا وثقةً بقدرة ربّ الأكوان في خلق مناسبات وأحداثٍ مأساوية تُسجَّلُ أحيانًا لصالح البشر في ظروف سلبية كالتي حصلت لأبناء هذه البلدة المسالمة في كنف السهل الراقد مريضًا في انتظار مبضع الطبيب الجرّاح للقضاء على الورم السرطاني الطارئ الذي دخل جسد هذه البلدة وأهلها بفعل فاعل ومن دون استئذان أخلاقي، فقد استجاب أبناء البلدة لنداء العقل والحكمة والتدبير الإلهي تجنبًا لخطر طارئ يتربص بهم وبمنطقتهم وأهلها من حيث لا يدرون أو يترقبون.

صورة خاصة

من هنا كان للإيمان الصادق الذي يعتمر قلوب ونفوس مواطني قرقوش وأهلها بصورة خاصة، والبلدات المسيحية المحيطة بها أو تلك التي تنادت لمحنتها واستشعرت الخطر من سمة الخوف الذي ألحقته الفاجعة، دورَه في الركون إلى الحكمة والهدوء والصبر في انتظار جمع القرائن والأدلة استعداداً للقادم المنتظَر المنطقي والنزيه في نتائج التحقيق الذي طالبت به مرجعيتُهم الكنسية بشدة وتنادت لها أصوات كثيرة من أبناء البلدة والمتعاطفين معهم في داخل العراق وخارجه. فالمسألة من دون أدنى شك، قد أخذت مسارًا آخر لا تراجع عنه بين سمتي الخوف المستشري جرّاء الحادثة وبين الارتكان إلى الإيمان في معالجة المأساة. ويا لها من مأساة!

تاريخيًا، فإنّ سمة الخوف وإنْ بقيت ملاصقة لأبناء المكوّن المسيحي في مسيرة حياتهم منذ بداية تراجع  وجودهم وتناقص أعدادهم منذ دخول الدّين الجديد إلى المنطقة والعالم قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا خلت بالسيف وفرض القوة والتهديد، وما زالت في سياق التناقص العددي بسبب كوارث وأحداث وفواجع وتقلبات سياسية واحتقان طائفي وعدم استقرار ومزالق لصيقة بجماعات إرهابية تحمل بصمات دينية إرهابية متطرفة ومتعصبة خاضعة لسمة ما يسمى بالفوبيا العالمية، إلاّ أنها من وجهة نظر مقاربة تبقى ذات جدوى في حياة الإنسان.

 

وفي كلّ الأحوال، فإنَّ شكل هذا الخوف من المصير المجهول الذي يراهُ أهل الدار على المحكّ في هذه الأيام لا ينبغي السماح بتمدّدِه وتوسعِّه إلى درجة الضعف والهون والاستسلام للقدر، وكأنّ هذا القدَر أصبح محتومًا. وبوسع أصحاب القضية أن يزنوا حجم هذا الخوف مع قدراتهم الإيمانية التي ورثوها عن الاباء والأجداد في صراعاتهم المصيرية كما حصلَ في كسب قضية بلدتهم عندما كانوا يتحملون السفر الطويل الشاق بين «الأستانة عاصمة الدولة العثمانية آنذاك والموصل» للدفاع عن حقهم في كسب قضيتهم. لقد طردوا كلّ أشكال الخوف حينها بالرغم من بقاء سمته وأثره ومفعوله من طوارئ الطريق وعداوات البشر طيلة فترات جهادهم من أجل استرداد حقهم في أرضهم وناسهم ودينهم.

بالإيمان يتبرّر الإنسان

هناك مَن يرى بأنّ سمة الخوف طبيعية جدًا بربط أساسها بسِمَة الخشية من رب السماوات خالق الكون وما فيه. أليس «رأس الحكمة مخافةُ الله»؟ فهي إذن من ناحية منطقية وسماوية، صفة طبيعية للمخلوق العاقل الذي يرتكز إلى الإيمان بربّ العباد عبر الحكمة في سلوكه اليومي وفي تفكيره ونظرته للمحيط الذي يعيش فيه، مهما كان هذا الأخير سهلاً أو صعبًا، مريحأ أم قاسيًا، عادلاً أم ظالمًا. فمَن لا يخاف الله في حياته يبقى إيمانُه ناقصًا ومهتزًّا في مسيرة حياته لكونه من علامات الصحة في الإيمان، كما يقول الأقدمون الراسخون في الفكر والعقل والتنوير. فمَن ذا الذي  لا يخشى الله في جبروته وقدرته على حياة الإنسان وتوجيهها الوجهة التي لا يعلم بها سوى ما سطّره القدَر بلا علمٍ أو وعيٍ من الإنسان الضعيف أمام قدرة الله خالقه؟ بمعنى آخر، عندما تبقى سمة الخوف في نطاق الفكر الإيجابي من القدَر الذي لا علمَ للبشر به، فإنّه حالة إيجابية تستدعي التعمّق في مغزاها وفي جدواها وفي طريقة التعامل بها وبأدواتها العديدة. حينئذٍ يكون التبرّر الصحيحُ بالإيمان لا بقواعد الشرائع وأعمال النواميس والقوانين، كما كان حال «إبراهيم أبي الأنبياء الذي آمنَ بربه وحُسبَ له ذلك بِرًّا». وبجاه هذا الإيمان الراسخ عينه بقدرة ربه، فقد جعله الله أبًا لأمم كثيرة، كما تقول الكتب. وعندنا في تعاليم المسيحية مثلاً، نتعلّم بأنّ الناموس أو الشريعة تُنشئُ الغضب والتعدّي وكلّ ما يُغضب الله خالق الكون، بل وتُخرجُ الإنسان الضعيف من دارة السلم مع الله الخالق، بعكس الإيمان الذي يصالح البشر مع الله خالقه. لذا، ومن وجهة نظر أخرى أكثر عمقًا، لو نظرنا اليوم إلى شدّة الفاجعة وما شابهها من فواجع ضربت وستضربُ مجتمعنا العراقي والعالم أيضًا، وجرت مقارنتُها مع فواجع طبيعية تنزلها السماء على البشر من حيث لا يدرون ولا يتربصون ولا يستشعرون كما حصل ويحصل في فواجع الظواهر الطبيعية والحروب وما تجرّه هذه من كوارث ومأسي لا حصرَ لها، فهي لكون السماء وربّها أدرى بما ينفع الإنسان في تعلّمه الدروس والعبر من مثل هذه الأحداث على صعوبتها وشدّتها على أصحابها وأهلهم وذويهم وبني جنسهم. ومنها تقوية الإيمان وترسيخه بالصبر والتعزية السماوية وعدم التزحزح أمام شدّة ألأحزان والأوجاع والمآسي والشدائد، إذا علمنا فقط أنّ «الشدّة تُنشئُ الصبر، والصبر يُنشئُ الفضيلة المختبرة، والفضيلة المختبرَة تُنشئُ الرجاء، والرجاء لا يُخزى لأنّ محبة الله قد أُفيضت في قلوبنا» (رسلة مار بولس رسول الأمم إلى أهل رومية 5: 3-5). ومن شأن هذا النوع من الإيمان أن يبقى أكبر من أهوال الخوف وأشكاله من حيث قدرته على احتواء أشكال هذا الخوف بفضل ما منحه اللهُ للإنسان من طاقة وإرادة على تحمّل المصاعب والشدائد، رغم ضعفه البشري واستسلامه في أوقات الشدّة والأزمات والانزلاق إلى ترّهات غير ذي فائدة ولا جدوى منها حين التعلّق بها، تمامًا كما حصل مع أهالي ضحايا قاعة المناسبات في الحمدانية- قرقوش بمحافظة نينوى بالعراق.في الحصيلة، لا ينبغي السماح بدخول الخوف في نفوس أهل الإيمان الصحيح والصادق والراسخ كي لا يكون ذريعة للغير المتربّص أو لصيقًا بسمة الجُبن والهوَن الروحي والنفسي والبشري لحد الاستسلام للقدَر الذي قد يُفسد الحسنات والصالحات وينتقص من أجور الإيمان المزروع في نفس المؤمن الحقيقي الذي يعرف ربَّه ويستسلمُ لإرادته ويرضى بقدرتِه على توجيه الأمور بحسب مشيئته: « يارب، لا تكن مشيئتي، بل مشيئتُك». فمشيئة الرب تبقى فوق كلّ شيء.

 


مشاهدات 443
الكاتب لويس إقليمس
أضيف 2023/12/06 - 4:40 PM
آخر تحديث 2024/07/17 - 1:39 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 373 الشهر 7941 الكلي 9370013
الوقت الآن
الخميس 2024/7/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير