الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الدبلوماسية.. المواقف المتعجلة

بواسطة azzaman

الدبلوماسية.. المواقف المتعجلة

فؤاد مطر

 

في مسلسل الصراع العربي _ الإسرائيلي وظاهرة العمليات الإنتقامية والإستشهادية التي حدثت من تنظيمات فلسطينية كانت هنالك ملامح للأخذ بالدبلوماسية كعلاج قد لا يشفي إلا أنه يفسح في المجال للعقل إبتكار الحل غير المستقر في إنتظار ثبات هذا الحل، تجدر الإشارة إلى ما يُعرف ﺑ «مبادرة روجرز» تلك التي طرحها يوم الخامس من يونيو/حزيران 1970 وزير الخارجية الأميركية وتقضي بوقف النار بين مصر وإسرائيل لمدة ثلاثة أشهر وفي ظل هذه التهدئة تبدأ الدولتان مفاوضات جديدة لتنفيذ القرار 242. واللافت أن الطرفيْن إستجابا يوم 8 أغسطس/آب للنصف الأول من القرار(أي وقْف إطلاق النار) لكن إسرائيل لم تتجاوب مع النصف الثاني أي المفاوضات، ولذلك سقطت المبادرة لمجرد أن مصر أعلنت يوم 4 فبراير/شباط 1971 رفْضها تمديد وقْف إطلاق النار، وبذلك إستؤنفت حال اللاحرب واللاسلم التي كانت الإدارة الأميركية ترى من خلال «مبادرة روجرز» في حال ثباتها إعتمادها حلاً أولياً تتبعه حلول، مع ملاحظة أن الدوافع الأميركية للمبادرة هي أن إسرائيل في الأسابيع التي سبقت طرْح روجرز للمبادرة منيت بخسائر في الأفراد وفي السلاح الجوي الذي طائرات هذا السلاح أميركية.

انتصار نوعي

هذا التعامل الدبلوماسي الهادىء من جانب روجرز لاحظناه كمتابعين لتطورات حرب 5 يونيو 1967 وللحرب التي خاضها الرئيس أنور السادات وإنتهت إنتصاراً نوعياً أثمر لاحقاً إتفاقية سلام مع إسرائيل لم يُستكمل فصولاً ومن أجْل ذلك عاد الصراع العربي _ الإسرائيلي إلى حلقات اللهيب والإلهاب بين حقبة وأُخرى. ولقد كان لافتاً في ما نعنيه ﺑ «الدبلوماسية الهادئة» التعامل من جانب روجرز مع عملية فدائية فلسطينية في مدينة ميونيخ قلب أوروبا ومصادفة على أرض ألمانيا التي طالما وظَّفت عهود إسرائيلية محرقة النازية لتثبيت تعاطف الرأي العام العالمي معها. وها هي «إسرائيل نتنياهو» تطور في حربها على غزة مفاعيل تلك المحرقة من خلال تدمير البيوت على ساكنيها. وللتذكير فإن عملية ميونيخ 5 و6 سبتمبر/أيلول 1972 التي نفذتها «منظمة أيلول الأسود» وإرتبط تخطيطها بإثنيْن من قادة حركة «فتح» هما محمد داوود عودة (أبو داوود) وصلاح خلف (أبو إياد)، تمثلت بتسلل خمسة مسلحين من أفراد المجموعة وعددهم ثمانية، جناح البعثة الإسرائيلية إلى «القرية الأولمبية» المنعقدة فعاليتها في ميونيخ وتمكنوا من إحتجاز 13 إسرائيلياً وسقوط قتيل واحد. وتحولت «القرية الأولمبية» من ساحة للرياضات الشبابية إلى ساحة مواجهة أمنية وتفاوضية قادها وزير داخلية ألمانيا لم يثمر فيها إستعداد المانيا لدفع فدية للفدائيين مقابل الإفراج عن الإسرائيليين ومبادلتهم بمسؤولين ألمان. دخلت إسرائيل على خط المواجهة وأرسلت مسؤولاً أمنياً أعد خطة كمينية قضت بتمركز 12 قناصاً ألمانياً في عدد من النقاط. لم تثمر كما خططت إسرائيل، ذلك أن القناصة قتلوا 11 رياضياً إسرائيلياً وخمسة من الفدائيين الفلسطينيين الثمانية بالإضافة إلى ضابط شرطة ألماني وطيار مروحية ألماني وتفجير المروحية. للعملية التي قوبلت برود فعل ضد القضية الفلسطينية بقية حيث من أصل الثمانية فدائيين أطلقت ألمانيا سراح الثلاثة الباقين الذين نجوا يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول 1972 إثر عملية خطْف طائرة ركاب تابعة لشركة «لوفتهنزا» كانت تقوم برحلة من بيروت إلى المانيا جرت مساومة في شأنها أثمرت الإفراج عن الفدائيين الثلاثة الناجين من عملية ليست بعيدة كثيراً في منطلقاتها وجرأة القيام بها عن عملية «حماس» يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 على أرض فلسطينية تحتلها إسرائيل. في الأولى كانت العملية صناعة فتحاوية لكن «فتح» إرتضت « السلطة الوطنية وعاصمتها مؤقتاً رام الله» على أمل أن تجني «حماس» من عمليتها حصة وازنة في التسوية الآتية ولو بعد حين. هذا كله في علم الغيب.«مجزرة ميونيخ» التي نقطة الضعف فيها أن ضحاياها رياضيون إسرائيليون شأنهم شأن أقران لهم من فلسطينيين وعرب ومسلمين وأجانب، لكنها الأقدار، جعلت روجرز يسجل خطوة لافتة في الدبلوماسية الهادئة كعلاج. ونراه في خطابه يوم الثلاثاء 26 سبتمبر/أيلول 1972 من على منبر الجمعية العمومية للأمم المتحدة في دورتها السنوية يقول «إن النتائج النفسية لمجزرة ميونيخ يجب ألاَّ تعرقل التحرك نحو إيجاد تسوية سلمية في الشرق الأوسط، بل يجب إستئناف هذا التحرك نحو التسوية السلمية. وفي هذا المجال علينا أن نسجل وجود عامليْن إيجابييْن: وقْف إطلاق النار وقد دخل شهره السادس والعشرين والمناخ الملائم للتسوية الذي بدأ يظهر هذا العام. ويجب أن نعترف بأن مجزرة ميونيخ تسببت في حلقة مؤسفة من الأعمال وردود الفعل وتركت ظلالاً قاتمة على إحتمالات تحقيق تقدم نحو التسوية في المدى القصير. لكن لم يغلق أي من الأطراف في شكل نهائي الباب أمام جهود دبلوماسية تُبذل في المستقبل.

قوى مؤيدة

 نحن نعتقد أن القوى المؤيدة للتسوية السلمية لا تزال مسيطرة وعلينا أن ندعمها بكل الوسائل الممكنة. إن وضْع اللاسلم واللاحرب الذي يسود في الشرق الأوسط لا يخدم ولن يخدم مصلحة أي واحد في المنطقة. إن إتفاق سلام مستقراً وعادلاً ودائماً يرتكز على قرار مجلس الأمن المؤرخ 22. 11. 1967 لا يزال هدف الولايات المتحدة، لكن هذا لا يمكن تحقيقه من دون البدء بطريقة تفاوُض حقيقية بين الفرقاء المعنيين ولا يمكن أية تسوية مفروضة من الخارج أن تدوم طويلاً، والتفاوض لا يعني الإستسلام...».كأنما روجرز يقول من العالم الآخر للدبلوماسية الأميركية الراهنة وللإسرائيليين وكذلك للرئيس بايدن في حال كُتب له الفوز بولاية رئاسية ثانية: لا تجعلوا «واقعة حماس» يوم الأحد 7 أكتوبر 2023 تلغي السعي الذي يجب أن يكون جدياً بعد الآن نحو التسوية السلمية وبحيث لا يعود كثير الكلام الأميركي عن «صيغة الدولتيْن» مجرد حلاوة من طرف لسان كثير المرارة.عند التأمل بعمق في مفردات الكلام الهادىء لوزير خارجية أميركا الزمن الغابر، نلاحظ كم هي المسافة بعيدة بين التأني والحس المسؤول تجاه كارثة تدمي وبين الممالأة في ما قاله الرئيس جو بايدن عندما هب مسرعاً إلى إسرائيله ليشد وهو يعانق وبتأثر من عضد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو  ثم نستحضر أيضاً وزير الخارجية أنطوني بلينكن  الذي سبقه إلى الإطمئنان على المصاب الإسرائيلي في مهابته وفي جبروته وفي شغفه بالتدمير وإشباع إنتقام لم يصل إلى منتهاه حتى إذا بات الأطفال والنساء جثثاً في الشوارع بالآلاف وباتت حتى الكنائس والمستشفيات وبيوت الله عرضة لصواريخ تم إطلاقها بأيد يحاسب الله مطلقيها ولو بعد حين، ذلك أن «ما من يد إلا يد الله فوقها.. وما من ظالم إلا سيُبلى بأظلم».

كان الله في عون الأمة ورحمة الله على الذين أدوا الواجب السياسي وفق قاعدة الذين يعملون في دنياهم لآخرتهم. ومن هؤلاء وليم روجرز الذي رحل يوم 2 يناير/كانون لثاني 2001 عن 88 عاماً.ويبقى من الذي قد يثمر إيجاباً عملاً بالمثل الشائع «في الإعادة إفادة» إستحضار تقييم إيجابي من جانب محمود رياض الأمين العام للجامعة العربية (الراحل) أحد رموز الدبلوماسية العربية الهادئة والنائية كما دبلوماسية الطيب الذكر سعود الفيصل ماضياً ودبلوماسية الواثق الخطى حاضراً فيصل بن فرحان الآخذ بالدبلوماسية علاجاً للمواقف المتعجلة. ففي ضوء تعامل محمود رياض كوزير خارجية قبل تولِّي المنصب العربي الأشمل (أميناً عاماً للجامعة) مع روجرز خلص إلى تقييم الرجل على النحو الآتي:«كان وليم روجرز شخصية تدعو للإحترام. وبحكم رئاسته لوزارة تضم خبراء محترفين بشؤون الشرق الأوسط فقد كان ملماً بطبيعة وحجم المصالح الأميركية في المنطقة وتحكمه الرغبة في المحافظة على تلك المصالح وتنميتها ويتمنى التوفيق بين تلك المصالح وبين السلام العادل بين العرب وإسرائيل ويرى أن هذا ممكن فعلاً لو إستطاعت الولايات المتحدة كبح جماح رغبة إسرائيل في التوسع على حساب الآخرين...».


مشاهدات 816
الكاتب فؤاد مطر
أضيف 2023/11/07 - 2:57 PM
آخر تحديث 2024/12/23 - 4:46 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 135 الشهر 11703 الكلي 10067798
الوقت الآن
الجمعة 2024/12/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير