الدكتور ريكان إبراهيم.. ريادة النقد النفسيّ في العراق
نادية الهنداوي
بدأت بوادر النقد النفسي العربي تلوح في الأفق مع كتابات الناقد محمد النويهي وعز الدين إسماعيل وجورج طرابيشي وغالي شكري وغيرهم من الذين وظفوا مفاهيم علم النفس كالاغتراب والنرجسية والمازوشية وعقدة أوديب وعقدة الكترا والعصاب والانفصام في تحليل الأدب ودراسته. واستعان بعض النقاد العراقيين مثل د. علي جواد الطاهر وعبد الجبار البصري ود. شجاع العاني وفاضل ثامر بالمفاهيم النفسية في تحليل الشعر والقصة غير أن أي واحد منهم لم يكن ليوصف بأنه ناقد نفسي، لسبب جوهري هو أنهم لم يكونوا متخصصين نفسيين ولا معنيين عناية خاصة بعلم النفس. ومن ثم لم يكتبوا نقودا نفسية تبحث في ظواهر سلوكية أو تناقش مشاكل انحرافية أو تشخص عللا نفسية وإنما هي محاولات في تطبيق المنهج النفسي كأداة من أدوات تحليل الأدب لا غير.
دوافع قهرية
وصحح أن للدكتور علي الوردي باعا مشهودا في تحليل ظواهر اجتماعية ونفسية، لها صلة بالشخصية والأحلام واللاشعور والدوافع القهرية والتنازع بين البشر وعلم الخوارق، بيد أنه انطلق في كل ذلك من تخصصه العام وهو علم اجتماع المعرفة وانتهى عند تخصصه الدقيق وهو علم النفس الاجتماعي.
ولم يشهد النقد النفسي في العراق ظهور باحثين نفسيين متخصصين إلا في ثمانينيات القرن الماضي حين برز ناقدان أدبيان هما طبيبان نفسيان ومعالجان اكلينيكيان جمعا إلى جانب تخصصهما في الطب النفسي، حبا للأدب ومكنة في النقد مما جعلهما مميزين في مجالهما. وهما الدكتور ريكان إبراهيم والدكتور حسين سرمك. وبمرور الزمن صرفت الثقافة ومسائل النقد الثقافي الدكتور سرمك عن النقد النفسي واتجهت به صوب تحليل السرد والشعر ونقد النقد. في حين واصل الدكتور ريكان إبراهيم مشواره في النقد النفسي. وهو الذي بدأ بنقد شعر السياب وحلل بعض نصوصه، وبحث في العلائق الكامنة بين الشعر والقلق والشاعر والمرحلة وهو القائل( إن الموضوع النقدي طاقة مستفيدة من مصادر عدة أولها النص نفسه ثم مرحلة الصلة بين الكاتب والناقد ثم آلية الاستبطان التي يمر بها الناقد في مناقشة النص من فهم ذهنية الكاتب وقدراته ثم أثره في صيرورة المجتمع) ثم انتقل إلى تشخيص ظواهر المجتمع فاهتم بالشعور واللاشعور ودرس اضطرابات النفس وأمراض السلوك. واستمر مواظبا على هذا المشوار غير متقوقع عند حدود الطب النفسي، فكان يعالج النصوص كما يعالج النفوس بدراية مهنية وعلمية موضوعية. وبسبب أدائه البحثي المشهود وحساسيته العالية إزاء مختلف الظواهر السلبية، استحق احترام زملائه وأقرانه وتمتع بينهم بمكانة مميزة.
وتوصف أبحاثه التي كتبها خلال العقدين المنصرمين بأنها بينية، أي تصب في باب الدراسة متداخلة التخصصات، وفيها جمع بين علم النفس وعلوم مجاورة كالتاريخ والقانون والطب واللغة والدين والميثولوجيا والأخلاق والسياسة والفلسفة والجغرافية، مواكبا مستجدات البحث النفسي في العالم من جهة، ومفيدا من مرجعيته التخصصية في تأصيل علاقة علم النفس بمجالات الحياة المختلفة من جهة أخرى، ليكون اليوم رائد النقد النفسي في العراق وصاحب اليد الفضلى فيه.
وانطلاقا مما يتمتع به د. ريكان إبراهيم من ذائقة شعرية وحس أدبي واستقلال فكري، وضحت في نقوده النفسية سمة خاصة وهي التأويل؛ فكان يأخذ على عاتقه رصد الظواهر والاعتقادات ثم تأويلها متوخيًا عدم الانزلاق والتكلف والإغراق، متمتعا بأصالة الرأي والأسلوب الرشيق والروح المحايدة.
إنه طراز خاص من النقاد العراقيين الدؤوبين الباحثين عن الجمال بثقة ووعي عاليين، أعجب بأفلاطون وهيغل والمعري ودانتي، وأولى الإبداع الأدبي اهتماما فعرف أسرار الصنعة النقدية وفي الآن نفسه وسّع رقعة بحوثه النفسية فكان كتابه( علم النفس والقانون) مهتما بالوصل بين الطب النفسي والجريمة التي يراها بدأت في الإنسان ليكون هو بعدها. وعد رواية( الجريمة والعقاب) لديستويفسكي إيذانا بعلاقة علم النفس بعالم الجريمة. ودرس في كتابه( علم النفس والتاريخ) أثر العوامل النفسية لشخوص التاريخ في صنع أحداث هذا التاريخ صناعة نفسية. وليس غريبا أن نلمس في أبحاث الدكتور ريكان إبراهيم رؤية شعرية هي أقرب إلى الفلسفية مع سعي واضح نحو إصلاح حال الفرد والمجتمع لا يخلو أحيانا من مسحة تشاؤمية؛ أولا لأن الإنسانية لم تعرف خلاصا من ذنوبها ولم تصل إلى سمو الضمير العام، وثانيا لأن أمراض النفس لا تعرف مجالا محددا بل هي شاملة باضطراباتها العقل والشخصية واللغة، وثالثا لأن المساءلة دائمة إزاء الظروف التي تحمل على نشوء الجريمة والانحراف والذهان والتخلف.
ظواهر سلوكية
ولعل هذه المسحة التشاؤمية هي السبب وراء حرص الدكتور إبراهيم على وضع الحلول لظواهر السلوك التي يقوم بدراستها مثل ظاهرة العدوان والاستدلال والرمز والتقمص والجريمة والاستبداد والوظائف الوجدانية وغيرها.ولم تقف جهود الدكتور ريكان إبراهيم النقدية والبحثية عند حدود علم النفس العام، بل تعدتها إلى فروع تخصصية أخرى كعلم نفس المرأة وعلم النفس العربي والبارسيكولوجي.
ومن الآراء التي تبناها أن( روح الإله السرمدي نزعة أصيلة في النفس، ولأنها كذلك فهي دافعة إلى صنع إلهات أو آلهة تتوحد في إله واحد) كما أن له توصلات مهمة هي من معطيات بحثه في الشخصية العراقية كقوله:( إن مناخ وادي الرافدين وفّر ظاهرة الحشد في أبنائه.. ظاهرة المشاعر والوجدان الجماعي هو مجمل جبري موجب باتجاه نشوء الضمير العام.)