الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الصندوق الخشبي الطويل

بواسطة azzaman

الصندوق الخشبي الطويل

حيدر العبدلي

 

كنا أطفالاً نلعب في الشارع، وقد جاءت سيارة تكسي عليها صندوق خشبي طويل، مرت بجانبنا ثم توقفت أمام منزل أم سعد، ما هي إلا لحظات حتى سمعنا صراخاً وعويلاً فظيعين.كان سعد يبلغ من العمر عشرين عاماً فقط لا غير، استدعي للخدمة العسكرية عندما بلغ من العمر الثامنة عشر، وقد عاد ذلك اليوم ممداً في الصندوق الخشبي الطويل.لم نكن نفقه شيئاً عن الحرب العراقية الإيرانية الدائرة آنذاك، لم نكن نعرف الموت أصلاً، وشعرنا بالرعب عندما علمنا أن ذلك الصندوق يحتوي على سعد، أشفقنا على أمه وهي تتوسل إليهم أن يبقوه في البيت ولا يأخذوه، ولم نكن نعرف لماذا يحاولون أخذها دون الالتفات لتوسلاتها بإبقائه.لقد قطعنا لعبنا ذلك اليوم، وحزنا حزناً شديداً ونحن نرى أم سعد تجلس في باب دارها تولول وتجمع بيديها قاذورات تمسح بها رأسها ووجهها قبل أن يسحبوها ويجرجروها إلى داخل المنزل، لقد كانت هيئة أم سعد مخجلة ومخزية، لكنها مؤلمة إلى أقصى الحدود.استأنفنا لعبنا بعد عدة أيام، لكن صديقنا شبل بقي متأثراً وحزيناً لأجل أم سعد، انطوى على نفسه ولم يعد يلعب معنا أبداً منذ ذلك اليوم. كان شبل يقطع الشوارع في المنطقة جيئة وذهاباً، ويصل حتى الطريق السريع، كلما رأى سيارة تحمل صندوقاً خشبياً طويلاً كان يشير إليها أن تمر باتجاهه كي يدلها على بيت أم سعد، كانت السيارة تتجاوزه فيركض خلفها وهو يبكي ويصرخ " رجعوا سعد يا كواوويد".بقي على هذه الحالة شهراً كاملاً حتى بلغ اليأس منه مبلغه، ترك مطاردة السيارات ذات الصناديق الخشبية الطويلة التي كانت تمر بكثرة على الطريق السريع.في أحد الأيام كنا نلعب كرة القدم في الشارع، وكان شبل يجلس أمام منزله ينظر إلينا ولا يلعب، دخلت سيارة تحمل صندوقاً خشبياً طويلاً من الطريق السريع إلى منطقتنا، فجأة لمعت عينا شبل وركض وهو ينادي فرحاً " منا..منا..بيت أم سعد منا".وفعلاً مرت السيارة كما أشار لها شبل، ودخلت زقاقناً وشبل يركض خلفها فرحاً يشعر بزهو الانتصار، نظر إلينا بتبختر عندما مر بجانبنا وقال " رجعت سعد لأمه".عندما وصلت السيارة إلي بيت أم سعد فوجئنا جميعاً بأنها لم تتوقف أمامه، بل أكملت طريقها وتجاوزت ثلاثة منازل ثم وقفت أمام بيت شبل بالذات.خرجت أم شبل وفعلت ما فعلته أم سعد بالضبط، لقد أحضروا أخو شبل الأكبر،عليّ، وكان ممدداً في داخل الصندوق الخشبي الطويل نفسه.كان الموقف أكثر رعباً علينا من سابقه، إذ أن شبلاً جن جنونه وصار يحمل الحصى ويرميها على من أخرجوا الصندوق من داره.بعد عدة أشهر تحدثت مع شبل حول أخوه علي، ففاجأني عندما قال إنه يكره أخوه، سألته عن السبب فقال إنه يكره سعداً وعليّاً لأنهما وضعا أمهاتهما في هكذا موقف، لم يكن يسمح بأية إمكانية للنقاش، وقد غضب عندما قلت له أن ما حدث ليس بأيديهم، صرخ بوجهي قائلاً " آني لو يجي الله ميخليني بصندوك واحط أمي بهيج موقف" كان الشرر يتطاير من عينيه ولم أسمعه يكفر من قبل، وعلمت أن ما من طائل لنقاشه.درست مع شبل أربع سنوات في الابتدائية، كان فيها من أقرب أصدقائي، ثم فترت العلاقة بيننا بعد أن انتقلت لمدرسة أخرى، ورأيته عدة مرات عابرة خلال سنوات، لقد تغير كلانا وصرنا أقرب للمعارف من الأصدقاء، كانت آخر مرة أشاهده فيها هي عام 2006 أي في سنة الأحداث الطائفية في العراق.في تلك الأحداث الطائفية فقد شبل ولم يعد حتى هذه اللحظة. مرت سنوات، وصار أمل أهله الوحيد هو أن يعثروا على جثة له، لكن ذلك مستحيل، فأنا أعرف عناده، وسيبقى ممداً في ركن خفي من هذا العالم، ولن تقدر أية قوة في الكون على جعله يتمدد في صندوق خشبي طويل، ويواجه أمه بتلك الطريقة.

 


مشاهدات 487
أضيف 2023/01/16 - 7:47 PM
آخر تحديث 2024/07/17 - 11:59 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 9 الشهر 7998 الكلي 9370070
الوقت الآن
الجمعة 2024/7/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير