الميلاد .. رسالة مسيرة
بيوس قاشا
هكذا كان مخطَّطُ ربّ السماء في هدوءٍ عظيم وبردٍ صامت. فاللهُ اختارَ أكثرَ الأمورِ ليكونَ بينَنا بدلَ الخوف ويشاركنا وحدَتَنا. وهذا يعني مسيرةُ الله نحو شعبٍ بسيطٍ ليفدِيَ الإنسانَ كما يقول مار أوغسطينوس "نزل اللهُ ليرفَعَ الإنسانَ إليه". فمسيرةُ الله ما هي إلا مسيرةُ محبةٍ، تجسَّدت بظهورِ الملاك معلِناً فرحةَ ولادة طفل المغارة قائلاً للرعاة "إنكم تجدونَ طفلاً ملفوفاً مضجَعاً في مذود" (لو12:2) وهذا الطفل يحتاجُ إلى كلِّ واحدٍ منّا لكي يحقِّقَ سلامَه بينَنا وفي عالَمِنا اليوم. إنه طفلٌ وضيع، وُلِدَ بين الفقراء.
نعم، إنها الحقيقة... وما الحقيقةُ إلا هذه الرسالةُ السامية في مسيرةِ المهمَّشينَ والمرفوضينَ ليموتَ مِنْ إجلِهِم. من هنا بدأَ تاريخُ الخلاص يتجسَّد في مسيرةِ الكنيسة والشعوب، وبدأت بشرى الإنجيل لإعلان كلمة الله التي أيَّدَها الروحُ القدس "فالله هو الكلمة" (يو1:1) الله تجاه الإنسان ومسيرة الإنسان نحو الله. وإنْ كانت مسيرتُنا قاسية، والخطيئةُ - ومن المؤسف - لا زالت تعملُ في الإنسان كما تشاء وكما يشاء، وبذلك تكونُ مسيرةُ حلالٍ في حرام سيدةَ الموقف وسيدةَ العبيد، تلك مسيرةُ الخطيئة. فكلُّ شيءٍ اليوم مباح، وذلك مُعلَنٌ عِبْرَ المذياع والفيسبوك، ويبقى صوتُ البابا بيوس الثاني عشر يرنُّ في الآذان بِصَداهُ الواسع "إنَّ الناسَ يؤمنونَ أنْ لا خطيئةَ اليوم". وهذا ما يجعلُ أنْ نقدِّسَ الدنيا، ونجلسَ لنحاكمَ الأبرياءَ كي نبرِّءَ أنفسَنا، وما ذلك إلا قَتْلُ الحقيقةِ في صمتِها ورسالتِها المقدسة.
نعم، إنَّ الحياةَ قاسيةٌ، ومع ذلك فولادة طفلُ المغارة تُبقي أرجُلَنا تحرثُ أرضَنا وتزرعُ الرجاءَ والأملَ في حقولِ القلوب. فالملائكةُ أنشَدَتْ ساعةَ ولادتِهِ "المجدُ للهِ في العُلى، وعلى الأرضِ السلام، وفي الناسِ المسرَّةِ الصالحة"، وهذا يجعلنا أنْ نحملَ - ليس في أفواهِنا بل في عيشِنا - عمقَ رسالةِ عماذِنا، ومسيحيَّتُنا ليست أنشودةٌ وتنتهي بل مسيـــــــرةُ رسالةٍ سامية، والمسيرةُ تقول لنا بعدم كُرهِ أشخاصٍ لأنهم صورةُ الله (تكوين1) بل شرورَهُم وخطاياهم.
لذا، فالميلادُ يدعونا ويعلِّمُنا أننا لسنا هنا للبكاءِ رغمَ الأيامِ الظلامية، كما نحنُ لسنا خِرافاً بل نحن ضميرُ الدنيا وضميرُ الشرق، والإنجيلَ الذي نحمِلُهُ في إيمانِنا ومسيرةِ حياتِنا رسالةٌ سامية وما أجملُها... إنها رسالةُ المحبةِ والتعايش.
فلا يجوز أنْ نموتَ ساكتين، ولا يجوز أنْ نصمتَ صمتاً مميتاً ومريباً، فالربُّ يقول "أنا معكُم" (متى20:28). فهذا الزمن هو زمنُ الشهادةِ والحقيقة وليس زمنُ التزويرِ والفساد وظُلْمِ الأبرياء، وهذا ما يجعلُ أنْ يكونَ لنا مكانٌ في مسيرةِ الوطن. لذا علينا توحيدَ كلمتِنا وهدفَ غايتِنا، وســـنبقى نبني جسورَ الحوار في كَسْرِ حواجِزِ الاختلاف. فإمّا أنْ نوجَدَ مِنْ أجلِ السماء ونحن على هذه الأرض، وإلاّ فلا حقيقةٌ في مسيرةِ الزمن "فمعركتُنا ليست مع اللحمِ والدم، بل مع الأرواحِ الشريرة" (أفسس 12:6).
رجاء وأمل
ولادةُ طفل المغارة ولادةُ رجاءٍ وأمل، ففيه تمَّ ملءُ الزمان فكان بيننا، وحقيــــــقتُهُ تجسَّدت فينا ومِنْ أجلِنا، وما ذلك إلا تجــديدٌ لإيماننا ولمسيحيَّتِنا "ففيه كانت الحياة" (يوحنا1).
فليبارك صاحبُ العيد شعبَنا ووطنَنا وكبارَنا ليعملوا مِنْ أجلِ الحقيقة، وليُحِلَّ السلامَ في ربوعِ ديارِنا، وليُعيدَ إلينا السلامَ والخير، وتلتئمَ القلوبُ مِنْ أجلِ مسيرةِ الإنسان، وليُدرِكَ كبارُنا أنَّ الإنسانَ أمانةٌ فيعملوا مِنْ أجلِ خلاصِهِ لأنَّهم أبناءُ الله بالعماذ. فالربُّ اختارَ سلاماً وليس حرباً أو حقداً أو كراهيةً، وهذا ما نُدْرِكُهُ مِنْ حوارِ المسيحِ مع السامريّة مِنْ أجلِ الحقيقةِ ومسيرتِها.
أخيراً، ربما نهتمُّ بالمغارةِ وزينَتِها، وهذا ليس خطأٌ. لكن علينا أولاً أنْ نهتمَّ بِمَنْ فيها، وأنْ نعملَ حَسَبَ إرادتِهِ. فاللهُ ينظرُ إلى القلبِ وليس إلى شيءٍ آخر. فنحن مدعوّونَ لنجعلَ ظلماتِ نفوسِنا نوراً نأخُذُهُ مِنْ مغارةِ بيتَ لَحْمَ، ومِنْ قلوبِنا مِذوداً نستقبل فيها كلمةَ الله. لذا علينا أنْ نبدأَ صفحةً جديدةً في الحياة، وهذا هو هدفُ الكنيسة أنْ أكونَ إنساناً جديداً يولَدُ مع طفلِ المغارة.
فعيدُ الميلاد بركةٌ مِنَ السماء لنفهمَ ونحملَ رسالتَنا ... وكلُّ عامٍ وأنتم بخير