قيامة الارض وفنتازيا السرد في (الباشا وفيصل والزعيم )
محمود خيون
تمثل رواية (الباشا وفيصل والزعيم ) للباحث والناقد الكبير باسم عبد الحميد حمودي الرؤية والرسالة الجديدة والمعاصرة في كتابة السرد الحكائي وخصوصية التداعي والمنولوج في الرواية الحديثة، وهو اسلوب قل التعامل به من قبل الكتاب العرب والعراقيين على وجه التحديد بأستثناء روايات( الوشم والأنهار ) لعبد الرحمن مجيد الربيعي ورواية( موسم الهجرة إلى الشمال ) للطيب صالح ورواية( الأشجار واغتيال مرزوق وشرق المتوسط ) لعبد الرحمن منيف، كما تجدر الإشارة إلى رواية( الحي اللاتيني )لسهيل ادريس ورواية ( الخبز الحافي ) لمحمد شكري " والتي جددت الصراع والاختلاف بين الجماعات السياسية والاجتماعية المحافظة وبين القوى المدنية المتنورة " . . وقد نجح الناقد والباحث باسم عبد الحميد حمودي في روايته إسترجاع مسلسل الأحداث الدامية التي شهدتها البلاد بعد انقلاب 14 تموز على الحكم الملكي واقامة الحكم الجمهوري بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم و عبد السلام عارف، وأعاد الكاتب حمودي إلى الأذهان جوانب مهمة من فصول تلك المجزرة التي راح ضحيتها جميع أفراد العائلة المالكة والباشا نوري السعيد ومجموعة من الضباط والوزراء من العهد الملكي...وكما وصفها الكاتب مؤيد داود البصام في مقدمة الكتاب بأن" انقلاب أو حركة 14 تموز 1958 التي اطاحت بالنظام الملكي في العراق، واسست للنظام الجمهوري حملت في داخلها تساؤلات اصبحت اشبه بالالغاز، وعلى الرغم مما كتب عنها عشرات الكتب والدراسات والمقالات في المجلات والصحف العراقية والعربية والعالمية دراسة وتحليلا إلا أنها ظلت تحمل في داخلها أمور كثيرة غامضة، يتداول نتائجها وما دار حولها الدارسين وتدو الأسئلة التي اكتنف غموض قيامها ونجاحها ومأساة ما حل بالعائلة المالكة من قتل بشع مدار هذا الغموض والاستفسارات "
وفي قيامة الارض التي صورها كاتب الرواية الناقد الكبير باسم حمودي تتجلى الصور الكثيرة التي تحمل في ملامحها الكثير من خطوط وتقاطعات تلك المرحلة المهمة والحرجة من تأريخ العراق...( قال الامير عبد الإله ضاحكا بغل!
الزعيم يضحك
- حصل العقيد على رتبة المشير وهو لم يقد فرقة واحدة.. هنا صاح عبد السلام عارف غاضبا: - أنا ضابط معروف بشجاعتي ولقب المشير ومنصب حصلت عليهما عندما أصبحت رئيسا للجمهورية، قال الملك بهدوء:
-: كم قتلت من الناس حتى صرت رئيسا ؟!
حتى صاحبك الذي يجلس بقربك الآن قتلته ورميت جثته في النهر، وقف عبد السلام وهو يرتجف صارخا وهو يشير بيده إلى الزعيم:- هذا قتل أكثر مني، وأنا لم أقتله بل تم ذلك بعد محاكمته...ضحك الزعيم عبد الكريم وهو يشير بيده إلى عبد السلام أن يجلس وقال مخاطبا الملك:
- لم يكن هناك إتفاق على تصفيتكم جلالة الملك بل محاكمة الأمير مع السعيد وغازي الداغستاني والجمالي ومختار بابان وغيرهم.. وانا امرت بدفن جثثكم باحترام في المقبرة الملكية وسائر النساء اللواتي قتلن، و عبد السلام هو الذي اذاع بيانا من الاذاعة بصوته مطالبا جماهير بغداد بالهجوم على قصر الرحاب حيث مقركم..)
بهذه الحكائية الغرائبية بدأت الصور تتداعى للقاريء العادي والدارس وكأن الموقف سيناريو معد لفيلم سينمائي يتحدث عن ابشع جريمة في التأريخ المعاصر وهي تقطيع اوصال الباشا ومن معه...ولا أدري ماذا يريد الكاتب باسم حمودي؟! هل يريد أن يؤكد حقيقة بأن جميع من قتلوا صبيحة ذلك اليوم المشؤوم هم احياء! ومازالوا يمارسون حياتهم معنا في ضمير وعقيدة بأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون...وإلا بماذا نفسر هذا المشهد الدرامي الحزين والدامي في( عالية) ...كان الملك يتأمل لوحة معلقة في الصالة وهو يتمنى شيئا في مخيلته ،فجاة فتحت الباب ودخلت سيدة جميلة مجللة بالسواد وقف لها الجميع احتراما، وأسرع اللمك لحتضنها باكيا ويقبل وجهها وهي تنهه وتحتضنه وهو يقودها حيث يجلس ..)
أقول..وبكل هذا الخشوع والجلالة يستمر الكاتب تصوير هذا المشهد حتى النهاية...( كانت الملكة عالية أم الملك وزوجة الملك غازي وابنة الملكة نفيسة التي لم تقم من مكانها وقد اخذتها المفاجأة...قبلت عالية أمها في الوقت الذي وقف فيه الباشا ونعيم العسكري وعصمت لتحيتها وهي تحتضن ولدها وتقوده إلى اريكة عريضة منفردة ليجلسا سوية..) ..ومما تقدم فأن ما دار من حكائيات مريبة وقلقة في فصول رواية( الباشا وفيصل والزعيم ) للناقد الكبير باسم حمودي وبأسلوبها المبسط والمباشر والسلس المفهوم لدى القاريء العادي والدارس ماهي إلا جلسات منظمة لمحاكمات العصر بعد سنوات طويلة من حدوث الجرائم البشعة آلتي نفذت بحق العائلة المالكة ومن معها، وهي دليل وتأكيد على قدرة وإمكانية الكاتب وشيخ النقاد باسم عبد الحميد حمودي على المناورة وتجسيد المشاهد الحية والحقيقة لتلك القصة الرهيبة التي ما فتئت احداثها تعيش في عقول ونفوس الكثير من الناس ممن عاصروا تلك الحقبة العصيبة أو الذين سمعوا أو تعرفوا على فصولها من خلال القراءة لما كتب عنها من دراسات وتحليل واشارات ، خاصة أن حادثة مصرع العائلة المالكة مازالت آثارها شاخصة بكل فصولها على واقع الحياة في البلاد والتي ترتب عليها انطواء صفحة مهمة وحساسة في التأريخ كانت من أهم أسباب الكثير من المتغيرات أدت مجتمعة الى المزيد من التساؤلات ومنذ ذلك الزمن البعيد ( من أصدر الأوامر بقتل العائلة المالكة ) ؟!..
يحق لي الجزم بأن الروائي والناقد الكبير باسم عبد الحميد حمودي أراد في روايته هذه أن يشعل النار في قيامة الارض باسلوب وطريقة يصعب على الكثير تفسيرها وما هذه الفنتازيا الساخرة إلا روح المعنى والوصف الذي يريده في كل ما كتب.