قبل أن يأتي بابا نويل بدبابته
نعيم عبد مهلهل
أعيش ذكرياتي في حدائق جسدها تلك المدن التي عاشت مع رغباتنا منذ زمن التلفزيون الاسود والابيض وشريط الكاسيت ، واتخيل عيون الاطفال في ذلك الجنوب البعيد ليلة الميلاد وأقارنه بتلك اللحظات الطفولية البائسة التي كنا نتعلق فيها بدمى السينما كي نتخيل أننا نطير الى هناك ، فيتحول فمي عند جمرة حلمة نهدها الى صوت من ازمنة تلك الدمعة الايروتيكية فأهمس لها :
أنا مشتاق ، وأتمنى في هذا اليوم الذي يلبس فيه سانت كروز ثوبه الأحمر ، أن اخرج من هذا القمقم (البيت ــ الدائرة ــ المقهى )..
((بابا نويل أو "سانتا كلوز" هو شخصية ترتبط بعيد الميلاد توجد عند المسيحيين، معروفة غالباً بأنها رجل عجوز سعيد دائما وسمين جداً وضحوك يرتدي ستره يطغى عليها اللون الأحمر وبأطراف بيضاء وتغطي وجهه لحية ناصعة البياض، وكما هو مشهور في قصص الأطفال فإن بابا نويل يعيش في القطب الشمالي مع زوجته السيدة كلوز، وبعض الأقزام اللذين يصنعون له هدايا الميلاد، والأيائل التى تجر له مزلاجته السحرية، ومن خلفها الهدايا ليتم توزيعها على الأولاد أثناء هبوطه من مداخن مدافئ المنازل أو دخوله من النوافذ المفتوحة وشقوق الأبواب الصغيرة)).
وعند خطوات العجوز القادمة في خلسة نوم اطفال المدن السعيدة . وليس مدن التظاهرات والعاطلين عن العمل والشهادات النائمة في بسطيات الشوارع . أتمنى مثل ذكور ( روما ، باريس ، بيروت ، مدريد ، كوبنهاجن ...لندن)....مدن تحتفي بضحكة المسيح ، ويرقصون التانغو والفلامنكو تحت أجفان السيدة العذراء ...
لكن ليس كلما يتمنى المرء يدركه ..المسيح الذي يجاور ديانتنا في فكرة التوحيد ويضع اناجيله الى جانب جزء عمه الذي كنا نحفظ آياته منذ المرحلة الابتدائية .سأذهب إلى مدن تقول لي نسبة لمعان أحمر الشفاه في فم شارون ستون ، وماذا ستتعشى الليلة مذيعات مونت كارلو ، وفي أي هوتيل سيسهر الرئيس ماكرون وولي عهد بريطانيا ، وكم ديكا روميا سيذبح الرئيس بايدن ثوابا ليسوع المعلق بمسامير الخيانة .. وبعدها سيأتيني النوم كأي صفرٍ منسي في مسائل الوجود.ثم اعود الى لحطتي مع برجيت دومنيكان صديقتي في كامب اللجوء واعيد صياغة همستي بأمنية من شهية هذه الليلة الخافتة الاضواء التي لا يلمع فيها سوى مقبض سيفك ونصله الحاد ورعشة اصابعك على ارصفة شفتيها :ولو كان سارتر حياً الآن لهجوته بفقري ..ولاعطيت برجيت باردو عشب جلجامش لتبقى سعيدة ..ثم أعود إلى نومي الرتيب واستيقظ صباحا لأسمع المطر ينهمر ، ويتساقط من سقف الغرفة ..التي سكنها جنوب القصب وجذوع النخيل وسعال معدان جواميس صباحات الرعي وعرفاء فصائل الخنادق الشقية فوق جبال بنجوين ونظرات عمال مساطر الطسين وهي ترسل جوعها الى شفقة المقاولين .عندها سأهجم على قطتنا واعتبرها نحسا فنحن في مدن الجنوب ، المطر بالنسبة لنا مشكلة ، والقط لا يسرق سوى اللحم الذي نوفره في أول الراتب..وبين المطر وشيخوخة باردو وعشاء مذيعات مونت كارلو والقطة ..أكون أنا الذي لا يهمني إن رقصت باريس حتى الصباح أو لم ترقص ، فالمقهى تنتظرني والكلمات المتقاطعة ..
قالت دومنيكان القادمة من بلد طوطمي اسمه سيراليون : واصل جريك وهمسك ، ودع الازمنة كلها تشاركك الرقص على صدري. لم يعد لك الهور مرتعا لحروف ابجدية قراءاتك الخلدونية ونظرات تلاميذك ترسم حلما لا يتعدى قيلولة جاموسة في الماء والقصب وان تطورت احلامهم تطوعوا جنودا في سريا المشاة وبطريات المدفعية .
أعود الى صدرها ، وتشاركني همستها فأعيد في بهجة الغرام القديم ــ الكرز لا ينمو في الجنوب السومري ولكني كلما أراه في فيلم أو صورة أتذكر شفتي أمي ولا ادري لماذا ..؟
لحظة السفر
ربما لأن قبلاها على خدي تشبه دموعي ودموعها وهم يتعانقان نحيبا في لحظة السفر وصافرة القطار تقول لك وحدهم الرواة من يفكوا شفرات المحطات البعيدة عندما تبدأ مواسمها بالبحث عن دارا للايواء او مطعما شرقيا تتذوق فيه شيئا من طبخ أمك .اليوم شاهدت في التلفاز اطفالا في سان باولو يترامون بحبات الكرز ليلة الميلاد ..الغريب أني سمعت صوت أمي في أعماقي تنادي الأطفال : أعطوني واحدة فأنا جائعة ....وعندا سأخبرها :والدتي الجائع أنا فتنورك قريب عليك أما أنا فكل شيء من أور يبتعد عني كما يبتعد المنفى في عيون مناديل الوداع وقصائد الشعر . أعيش ذكرياتي والعام الجديد عن ابواب نهايته . كل شيء نذيره رمادي واسود ، اوكرانيا والنفط والتظاهرات في بلدي والمسموم داعش والمتخلف طلبان والدكتاتور الذي يريد ان يبقى ابدياً مثل ملوك غفلة الاساطير الذي كانوا يجبرون حرسهم وخدمهم يذهبون معهم الى اقبية الموت وهم لا زالوا احياء ، ويعتقدون أن جنة دلمون لاتبعد عن مقابر أور سوى بمسافة قاعدة الامام علي الجوية التي بينها وبين الزقورة مسافة ميلين فقط .
حيرة الزمان تبدو واضحة في عيون المهاجرين ولا تتضح صورتها في وجوه الداعرين واللصوص والمتمين تلك هي رؤية سقراط والحاج كامل دوهان مكتوك عطار شارعنا في المدينة السومرية .منهم تعلمنا وتعلما ايضا من ابتسامات بائعات القيمر وقصائد لميعة عباس عمارة واهداف عمو بابا وقبلات رشدي اباظة في فم سعاد حسني وهند رسم .
زمن لا يعود يا سانت كروز ...
وان عدت انت يا رجل الثلج فانت تعود واقدامك مزنجرة دبابة والشال التير ترتديه السيدة الاممية الهولندية جنين بلاسخارت .
أما أنت فلا شيء لديك هنا سوى ذكرياتك ،وكما تقول عجائز مدينتنا :الذكريات لا تنشره ولا تنباع .