التجنيد الإجباري في العراق القديم
قيس حسين رشيد
مثلما شهدت ارض الرافدين ولادة بواكير الحضارة ورموزها الفكرية من زراعة وكتابة وقانون ومؤسسات دينية وغيرها فقد عرفت ايضاً تأسيس اول جيش نظامي في التاريخ وذلك منذ بداية الالف الثالث قبل الميلاد وهي الفترة المعروفة بعصر فجر السلالات (2900- 2370) قبل الميلاد بحسب ما وصلنا من أدله اثاريه. ثم اصبح ما يعرف بالجيش الدائمي للدولة مقروناً بالملك الأكدي سرجون (2350 - 2295) إذ يشير نصاً كتابياً منسوباً له بأنه كان يطعم 5400 مقاتل يومياً في قصره وهو ما يعني وجود الحرس الملكي الدائمي بالمفهوم الحديث .
كان الجيش حينذاك مؤسسة حكومية ينخرط فيه الشباب جنوداً وضباط ولهم لباسهم المائز ومعسكراتهم الخاصة التي كتبوا اسمها بالعلامات المسمارية kI-kUS-LU-UB-GAR والتي تعني (المكان الذي توضع فيه السهام).
الجنود في الجيش الرافديني على نوعين ، الاول يسمى ( أيرن ) ويعني الجندي الدائمي . والنوع الثاني يسمى (كوروش) ويعني الجندي الذي تطلب السلطة التحاقه لفترة محدودة وخاصة في اوقات الازمات كالحروب والفيضانات وغيرها. وقد ضم الجيش عدة صنوف حسب الاسلحة المستخدمة الا إن من المثير انه ضم صنفاً يماثل صنف الانضباط العسكري والذي كان من بين واجباته معالجة حالات الهروب من تأدية الخدمة العسكرية مستندين على مواد قانونية صارمة عرفتها الشرائع العراقية القديمة وأسست على وفق ذلك محاكم عسكريه خاصة يديرها رجل عسكري برتبة عالية مع ثلاث قضاة. وقد عرفت المؤسسة العسكرية حينذاك حالات الاعفاء من الخدمة الألزامية وذلك لظروف خاصة وهي صلاحية حصرية للملك كما شهد العصر البابلي القديم (2003- 1595) قبل الميلاد اصدار مرسوم ملكي يقضي بإعفاء سكان مدينة نيبور (موقع نفر في الديوانية) من اداء الخدمة العسكرية الالزامية لمكانة نيبور الدينية المتفردة ولتفرغ ابنائها للعناية وخدمة الزائرين لمعبد ايكور المخصص للمعبود الشهير إنليل .
نصوص مسمارية
كان من بين أساليب التجنيد الاجباري في بعض عصور حضارة بلاد الرافدين هي ان تقوم كل منطقة او أقليم بتزويد الحكومة بعدد من المقاتلين يتناسب مع عدد سكان تلك المنطقة ولم يتقاضى الجنود المساقين للخدمة العسكرية اية اجور او رواتب بل كانوا يطعمون ويكسون على حساب الدوله وفي بعض الاحيان توزع عليهم اراضي زراعيه لأستثمارها طيلة فترة خدمتهم.
لقد نقلت لنا عشرات المسلات والنصب التذكارية
فضلاً عن النصوص المسمارية مآثر وانتصارات الجيش الرافديني على الاعداء والطامعين وامتداد نفوذ الحضارة العراقية القديمة من البحر الاعلى (البحر المتوسط) الى البحر الاسفل (الخليج العربي)، فتفاخر سرجون الاكدي مثلاً بهذا النص المسماري المعروف:
(( لقد سست وحكمت ذوي الرؤوس السود
وقهرت الجبال الشاهقة بفؤوس برونزية قاطعة
تسلقت القمم العليا
وعبرت القمم السفلى
وطفت بلدان البحر ثلاث مرات
وأستولت يداي على دلمون )).
اليوم يحاول المشرع العراقي اعادة العمل بقانون اصطلح عليه (خدمة العلم) وهو تجنيد اجباري تعسفي مهما تم تلميع التسمية ، فخدمة العلم لا تنجح من خلال إجترار تجربة العسكرة التي رافقت المخيال الجمعي قبل احداث 2003 بنفس اساليبها الباليه فضلا على ما يمر به العراق من تفشي لظاهرة الفساد وسوء استخدام السلطة والتخندق خلف الهويات الفرعية عرقياً وطائفياً وحتى مناطقياً.
والاجدى للعلم الذي يراد له ان يُخدم أن تبذل الحكومه والبرلمان جهداً استثنائيا صادقاً لتغيير منظومة التفكير والسلوك والادارة التي أنتجت نظاماً غير سوي ذبح العلم وما تحته.
يقيناً ان العراق الان ليس بحاجه الى زيادة عديد قواته بقدر ما يحتاج الى ترسيخ عقيدة عسكرية وطنية ، وتجربة احتلال داعش للموصل والمدينة متخمة بالفرق العسكرية خير دليل على ذلك ، مثلما هي تجربة تحرير العراق من داعش دليل على ان العراقيين لن يتوانوا في تلبية نداء الوطن عند الحاجه.
إن نية تشريع القانون هذا يأتي في توقيت غير مناسب وفي ظروف غير ملائمة فليس من الحكمه ان نخدم العلم تحت سلطة ضابط مأزوم في معسكر مُذل لا ينتج الا مزيد من جيوش الناقمين، أم إن وراء الأكمة ما ورائها .