التأصيل الحضاري في حريات الشعوب
علي كريم خضير
لقد حفلت بعض شعوب العالم المتحضر بديمقراطيات واسعة حرصت بوساطتها على التعبير عن الحريات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية للأفراد في المجتمع، بيد إنَّ هذه الحرية كانت ومازالت تخضع لقيود تحمل خصوصياتها الجينية المنسجمة مع الأعراف والأصول العرقية التي تطبع هذا المجتمع وتميِّزه عن غيره، ويمثل هذا الإجراء تصرفاً رسمياً إزاء تراث يحمل صبغة القداسة في أفهومات الشعوب المتحضرة. فالإرتباط بالتراث يؤكد عمق الأصالة والثقة بالنفس، التي تتولد من تمسك الأنسان بواقعه الحضاري ماضياً وحاضراً، وبذلك تصبح له شخصيته المنفردة والمميَّزة التي تنافح الآخرين بعطائها الثرِّ الأصيل الملتزم. وقد يغدو أبلغ حديث في التراث العربي هو ماوصلنا عن (ديمقراطية الحكم) في بواكير العمل السياسي الإسلامي وطبيعة أداء السلطة فيه، إذ كانت (المشورة) عماد الحكم للدولة الإسلامية مصداقاً لقوله عزَّ وجلَّ: (( وشاورهم في الأمر....)). كذلك ما نصَّتْ عليه ( سورة الشورى) من قوله تعالى: (( وأمرهم شورى بينهم..)) عن عظم الفائدة التي تُصيب المسلمين من تلاقح الأفكار فيما بينهم ليخرج الرأي في النهاية ناضجاً حكيماً نافذاً كالبرق إلى قلوبهم الطيِّعة. وقد ترجمتهُ أفعالهم وأقوالهم في تطابقٍ تام بعيداً عن الفوضوية وتشتيت الطاقات الإنسانية في جهود عبثية تُرهق الأمة وتُصغِر شأنها بين الأمم الأخرى، وتكاد تكون هذه المنهجيات التي توصف اليوم بالحداثة والتحضّر، هي من وراء علوِّ كعب الدولة الإسلامية وارتفاع نجمها في سماء الحياة الأُولى للإسلام الحنيف.
إذاً، في تأريخنا الأسلامي المشرق سلاسلٌ في عقودٍ من جمان يمكننا أن نطوّق بها حاضرنا كي يبدو جميلاً رائعاً متكاملاً متى ما أحسنَّا الصنيع في هضم التراث، وغادرنا هذا الجذام الفكري الذي بدا اليوم ظاهراً، لاسيِّما على تفكير بعض ممتهني السياسة في زماننا، فلم يحاسبوا أنفسهم على ضياع الوقت في اجتهادات مربكة ولغوٍ عقيم، بات عائقاً كبيراً أمام نهوض الأمة، واعتراض طريقها في التقدّم والإزدهار.