الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
شغف الحرية

بواسطة azzaman

قصة قصيرة

شغف الحرية

كمال جاسم العزاوي

فكرة القصة من واقعة حقيقية عشنا تفاصيلها في زمن مضى تدور أحداثها في معتقل (تأديبي) لطلبة الجامعة في قلب المدينة   حين كانت الحرب سجالاً ويشتد أوارها عام  بعد آخر لتلقي بظلالها على مسار الحياة  فالمظاهر المسلحة وعسكرة المجتمع وصوت الانذار مشهد يومي نعيشه بتأثيراته النفسية السلبية حين كنا في المرحلة الأخيرة من التعليم الجامعي و تنتظرنا مهمة  التدريب على السلاح والمشاركة في الحرب وذلك بحماية الجبهة الداخلية أي التواجد في المواقع المهمة في المدن والقصبات وحمايتها وفي احدى مراحل الدراسة (بعد انتهاء الفصل الاخير من المرحلةالثالثة) وبداية التمتع بالعطلة الصيفية للطلبة كانت معسكرات التدريب قد انشأت وهيأت لاستقبال الطلبة للتدريب ومن ثم المشاركة في الواجبات التي تحددها القيادة العسكرية المسؤولة على تعبئة الطلبة والتي تمكث في ذلك المبنى (المعتقل) السالف الذكر كنت من ضمن عشرات الطلبة (المتخلفين) عن الالتحاق بمعسكر التدريب وممن لديهم أعذار أو مبررات للعزوف عن المشاركة  فقد حدث فقدان شقيقين لي (بوقت متقارب) في احدى المعارك وكنت أستبعد معاقبتي لهذا التخلف عن الركب (لأسباب انسانية) على أقل التقدير لكني اكتشفت بعد أيام خطأ حساباتي وزيف توقعاتي فكان ما كان من أحداث ومكابدات مكيدة :

حان موعد استلام نتائج امتحانات الفصل الأخير فقصدت وبعض زملائي مبنى الكلية للاستفسار فكان رد المسؤولين أن استلام النتائج سيكون داخل معسكر التدريب (حصراً) وبما أننا متشوقون لمعرفة النتيجة والدرجات التي حصلنا عليها بمجهودنا وسهرنا  فما كان منا الاّ التوجه نحو المعسكر ولم نفكر بأي شيء آخر فتقدمنا لاستلام النتائج  فرحين بنجاحنا متفائلين حتى فاجئنا أحد  المسؤولين (يرتدي بزة عسكرية دون رتبة) بابلاغنا بأمر توقيفنا لفترة غير محددة لعزوفنا عن الالتحاق بمعسكر التدريب دون الاستماع الى تبريراتنا ومناشداتنا فلم يكن أمامنا سوى الرضوخ والاستسلام مع اليقين التام بوقوع الظلم والاجحاف بحقنا في عنابر الاعتقال :

سارت بنا عجلتان عسكريتان الى مبنى قيادة المعسكر (المعتقل) فترجلنا منهما متوجهين الى المكان الذي سيشهد أسرنا ومكوثنا لأجل غير مسمى وهو عبارة عن قاعة كبيرة وعميقة لا تحوي أية قطعة من الأثاث أو مستلزمات الاقامة الطبيعية فدخلنا على شكل طابور طويل ليختار كل منا زاويته والبقعة التي سيستقر عليها فراشه (وصلت الفرش فيما بعد من بيوت أهالينا) وليستسلم أكثرنا للنوم بعد هذا العناء والارهاق النفسي والجسدي يوم جديد :

أشرقت شمس صباح اليوم التالي لتبعث الأمل في النفوس ولو قليلاً بعد أن آمن الجميع بالقدر وتقبّل فكرة السجن على مضض وبخاصة بعد انضمام مجاميع متتالية من اساتذة جامعيين بدرجة الدكتوراه وبمختلف الاختصاصات مع طلبة جدد ممن كليّات  اخرى مما رفع المعنويات وآنس وحشة الاعتقال وبفضل التقارب وعلاقات الزمالة والشعور بالمصير المشترك بين المعتقلين من طلبة وأساتذة على حد سواء اعتدنا الوضع الجديد وكدنا ننسى أننا (سجناء معاقبون) اضافة الى ما كان يصل الينا مما لذ وطاب من المأكولات وكل ما نحتاجه من أهالينا حين يقومون بزيارتنا مواقف انسانية :

أفرزت الحياة الاستثنائية التي عشناها داخل الجدران الأسمنتية مواقف انسانية نتيجة للشعور بالمصير المشترك والتعامل عن قرب بين الفئات المختلفة فنشأت بذلك علاقات حميمة بين الكبير والصغير وبين الاستاذ الجامعي وطلابه وأحياناً بين (السجناء) وحراس السجن فغدت تلك العلاقات الانسانية البلسم الشافي للجراح والمحفز النفسي للتأقلم والتعايش وتقبّل الوضع الحالي وان كان سيئاً   خارج جدران السجن :  

هناك شبابيك زجاجية تطل على ساحة مفروشة بالاسمنت (تستخدم للتدريب الصباحي لجنود المقر) نشم من خلالها الهواء النقي ونتطلع الى الحراس والجنود الذين يظهرون أمامنا لنشتهي تمتعهم بمطلق الحرية وحركة الأطراف التي حرمنا منها منذ دخولنا قاعة المعتقل وعند حلول المساء يتكرر أمام ناظرينا ومن خلال شباك السجن مشهد يومي في غاية الترف والسلطنة  فقبل مغيب الشمس بدقائق يبدأ الحراس بوضع جهاز التلفاز وتشغيله على مسلسل (الذئب وعيون ةالمدينة) ووضع الفرش اللازمة وتوضيب الجلسة المسائية لرئيس الحراس وهو برتبة (ضابط صف) ويبدو أنه مطاع لدى جنوده  فهم يتسارعون لخدمته ونحن قابعين في أماكننا نتابع هذا المشهد المثير واذا بالخدم يأتون بمائدة دسمة تنعش رائحتها الانوف ويسيل لها لعاب المحرومون  المشهد الأخير :

لا شك أن مشهد رئيس الحراس وجلسة مائدة العشاء المترفة قد أثار في نفوس السجناء الغبطة والحسد لمرتين الأولى هي حرية الحركة والاسترخاء ومتابعة البرامج الترفيهية والثانية الوليمة الدسمة التي تطلق أحماض المعدة الخاوية وكلا الحالتين تفتقدها  عنابر السجن والتي تتكرر أمام ناظرينا من خلال النافذة بشكل يومي وفي نفس التوقيت ولكن عن بعد  فالوليمة تصلنا رائحتها الزكية دون رؤية تفاصيلها والثانية حالة الترف أمام التلفاز حيث نسمع الاصوات دون رؤية شاشة العرض وكان هذا المشهد الآخير لهذه القصة فقد افرج عن الجميع بعد أيام فلائل ليمضي كل منا في طريقه متمتعاً بالحياة الطبيعية راسماً في مخيلته معنى  آخر لشغف الحرية لا يدركه سوى من ضاقت نفسه بين الجدران


مشاهدات 586
أضيف 2022/09/09 - 9:53 PM
آخر تحديث 2024/07/15 - 6:48 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 8 الشهر 7997 الكلي 9370069
الوقت الآن
الجمعة 2024/7/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير