الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
في حضور الشخصية المحمدية: الثوابت في ثقافتنا العراقية

بواسطة azzaman

في حضور الشخصية المحمدية: الثوابت في ثقافتنا العراقية

جمعة اللامي

 

يحيلنا التحري والاستقصاء الدقيقين إلى سِيرِ وحياة المبلغين والعرفاء العراقيين والعرب قبل الإسلام وبعده إلى جملة من الحقائق، بعضها يتعلق بالمبلغ، وبعضها الآخر يتعلق بالرسالة ـ موضوع التبليغ، بينما يشير جانب من تلك الحقائق إلى الكتلة البشرية الذي يتوجه إليها المُبلّغ، وكذلك الى نوعية الرسالة واجبة التبليغ.

وهي في المحصلة ـ كما أسلفنا في البلاغ 21 رسالة ثقافية ومعرفية وحضارية .

وبوصفه مبلغاً إلهياً متصلاً بالسماء من خلال الوحي، وبكونه قائداً تاريخياً ، تفصح سيرته الشخصية عن أن القيادة هي القرار التأريخي المناسب في اللحظة التاريخية الضرورية.

ويتكرس أنموذج محمد بن عبد الله باعتباره القدوة المثلى، لأنه " الأنسان الكامل"، على وفق التنزيل الإلهي، والتشخيصات التي اوردها كثير من العرفانيين العرب والمسلمين، وكشوفات عدد من المستشرقين، من بينهم لويس ماسينيون.

 وأمام المثقف العراقي، وهو يواجه دوره المتعين في تقديم تصورعراقي للثقافة الوطنية العراقية، اي الشخصية العراقية بالتالي، مهمة جليلة من خلال أعمال إبداعية في مختلف الأجناس السردية والشعرية والفنية والعلمية، وفي إعادة تأليف نص معرفي ذي صبغة ثقافية منفتحة على التجارب الإنسانية، سيكون هو الإطار الفكري والثقافي والحقوقي لتلك الأجناس الإبداعية.

إن هذا النص الذي ينبغي إعادة تأليفه هو ما يسمى ـ ثقافياً، بنظرية المعرفة.

وهو ما لم يتصدّ له المثقف العراقي، الاّ في سياق الثقافات " غير العراقية، لا سيما الثقافات الأوروبية على اختلاف مدارسها وتعددها. فالذين ارتبطوا فكريا بالحداثة الغربية في فرعها الماركسي تبنوا نظرية المعرفة كما أوردها ماركس ـ لينين. والذين تعاملوا مع المنطق الغربي الليبرالي، تبنوا نظرية المعرفة كما بشّر بها منظرو الرأسمالية العالمية بعد الثورة الصناعية في أوروبا.

وسوف ننتظر عقودا غير قليلة في القرن الماضي، حتى نتعرف على مفهوم عراقي ـ عربي لنظرية المعرفة، على يد المفكر محمد باقر الصدر، في كتبه ومؤلفاته التي بين ايدينا، لا سيما بحثه القيم:"فلسفتنا".

غياب " نظرية المعرفة " تلك عن مشهدنا العراقي، ثم ظهورها بعد ذلك، يعود الى حالة الانفصام  التي وسمت أسلوب احتكاك المثقف العراقي مع الغير. إن الصدق مع النفس والمحيط الاجتماعي والحقائق التاريخية، تشيد الخصلة التي يجب على المثقف أن يتحلى بها، بل ويجعلها جزءاً أساسياً من شخصيته الثقافية والاجتماعية. لأن هذا الصدق هو الذي يجعله ـ على الصعيد الشخصي، غير قابل للغواية والانحراف. وكذلك يقدمه، هذا الصدق، إلى مجتمعه من منطلقات النقد الصادق الصحيح والواقعي لكل الاختيارات والخيارات والمكونات الثقافية والاجتماعية والفكرية لهذا المجتمع.

ميدان الفكر

وبالتلازم مع الصدق في شخصية المثقف ـ المبدع، تتأكد أهمية الأمانة. فهذا التلازم ما بين المنقبتين، لا يشكل القاعدة المثلى لتكوين شخصية المثقف فقط، بل إنه يقدمه للآخرين كحقيقة تأريخية وحضارية أمينة. أي أن خطابه في ميدان الفكر، وإنجازه على صعيد الإبداع، يحوّلان الأخلاق الشخصية الفردية إلى مشهد حقيقي وواقعي إجماعي وطني.  إن التحقق الأخلاقي والواقعي لهذه الشخصية الثقافية الاجتماعية، من حيث نجاحها الأنموذج وتميزها على المنوال الأخلاقي، تترجم لها وتعكسها على أكمل وجه، شخصية محمد بن عبد الله، وشخصيات العرفانيين والأبدال والدعاة والمبلغين التاريخيين في بلادنا.

أن شخصية الرسول الأكرم تتقدم نحو المثقف العراقي، بكرم اخلاقي غير مسبوق في زمانه، وتنجده بالهدف الأمثل لعمله في ميدان الفكر، وعلى صعيد الإبداع أيضاً، ألا وهي إن كل أعماله ينبغي أن تكون خالصة لوجه الله، وتنطوي على احترام للعقل. إن العقل ـ وهو يتعامل بصرامة نقدية مع السلطة الزمنية و"منظومة الحق العام "ـ يجعل من المثقف، ناقداً وهادماً ومقدّماً الرؤية السليمة للحياة والثقافة والفن والإبداع. ويفتح امامه فضاء التبصر، والقول الحق وهو يطرح أفكاره وينشرها، أو يواصل مغامرته الإبداعية، باعتباره صانعا في نطاق الإبداع الإلهي، أمام الكتلة الاجتماعية، على تعدد مستويات وعي شرائحها ، لأنه في كل أعماله لا يرتجى رضوان أي كائن أرضي، مهما كانت سطوته وجبروته ومنزلته الاجتماعية. ولا يبتغي ودَّ أي شريحة أو سلالة قبلية مهما كان موقعها في المجتمع، وإنما يتوجه إلى الحق المطلق، والجمال والحرية والمسؤولية، الا وهو الله سبحانه، في التعبير الإسلامي. إن الشخصيات العربية المبرزة في تاريخنا العراقي والعربي ـ الإسلامي، ليست جميعها شخصيات تاريخية. لكن شخصية الرسول الكريم هي الشخصية العربية الوحيدة التي أجمع المؤرخون والمفكرون العرب والأجانب المنصفون على فرادتها وتجلياتها الفذة حينما كان (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم) يقدم للناس شخصيته حينما بدأ بالدعوة لرسالة السماء. وعندما تسلم زمام القيادة على صعيد مجتمعه والدين القيّم.

تطور الشخصية

ومن الواضح الآن أن منحنيات وتطور الشخصية المحمدية، حتى بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، في حالة استيعابها من قبل المثقف العراقي، ستجعل هذا المثقف مفكراً ومبدعا، وحالة من الفيوضات غير المنتهية، وعلى جوار وحِوار مع شخصية الرسول في حياته وبعد موته. والشائع الآن على مستويات متعددة ـ وهذا للمثال وليس للحصر، إن كثيراً من المثقفين العراقيين يشكون من سطوة الظلم والقمع، وبعضهم يقدم في نماذجه الفكرية أو أعماله الابداعية وصفاً لسطوة الظلم والقمع وافتقاد الحرية. غير أن الوصف يبقى في نطاق الأعمال الاعتيادية، إذا لم يرتق إلى مستوى التحليل والفهم والقرار التاريخي، والتحدي المصحوب بالعقل والحكمة والشجاعة.

هذه الحالة المطلوبة من المثقف العراقي المعاصر، مشاعة في شخصية الرسول الكريم. فلو قمنا باستدعاء بعض أحداث بدايات الدعوة ومرويات "شِعبِ أبي طالب"، والاندفاع خارج الحدود الجغرافية إلى المدينة المنورة والحنين الى الوطن، وفي تقديم تصوره للشخصية الانسانية على اساس الأخوة في الدين والإنسانية والخلق، ثم في نشر ثقافة "الشخصية المحمدية"، التي أطاحت الطواغيت والأصنام من البشر، لوجدنا أن "شخصية محمد" هي المفتاح العقلي بيد المثقف العراقي وهو يواجه الظلم والقمع وافتقاد الحرية، تماماً كما هو يواجه العقبات والعراقيل ويخضعها الواحدة تلو الأخرى.

لقد ثبت أمامنا جميعا، أن انحراف الكثير من الشخصيات العراقية والعربية التي قيل عنها أنها "تاريخية" في السياسة والحكم والثقافة، يعود الى ابتعادها عن "التصور المحمدي" للشخصية الإنسانية. كما ثبت بالتجربة الميدانية المعاصرة إن انهيار "شخصيات تاريخية" عراقية، عربية واسلامية، وانهيار نظم اجتماعية سياسية ومنظومات فكرية، يعود إلى اغتراب التطبيق عن الأنموذج. ان "الشخصية المحمدية" هي التلازم بين الفكر والتطبيق الميداني. ويبدو ان الخيار الوطني والإنساني الأفضل أمام المثقف العراقي، الذي يبحث عن خلاصه الشخصي، ويعمل على إعلاء شأن وطنه وأمته، هو الاسترشاد ب "الشخصية المحمدية"، والعمل على مستوى اخلاق الرسول في الفكر والإبداع والحركة على صعيد مجتمعه المحلي، والبيئات الاخرى.


مشاهدات 561
أضيف 2022/07/19 - 4:31 PM
آخر تحديث 2024/07/17 - 8:13 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 400 الشهر 7968 الكلي 9370040
الوقت الآن
الخميس 2024/7/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير