حميد سعيد.. الأيام الحلوة في المحطات العربية
محمد حمدان
حتى لايطول الحديث ويتشعب بعيداً عن المقصود منه هنا ، أُشير إلى أنني في عام 1985التقيت د.عادل جاسم البياتي "من العراق الشقيق" في المغرب ووافق ان يكون مشرفاً ثانياً على اطروحة الماجستير التي كانت في نهاياتها (المشرف الأول كان د.عبد الله الطيب / من السودان الشقيق . وقد قرر العودة الى السودان بعد الانقلاب على النميري ....شغل منصب رئيس مجمع اللغة العربية السوداني حتى توفي "عليه الرحمة").
أطروحتي كانت تتناول ادب نكبات المدن في العصر العباسي في المشرق العربي إبان الحروب الاهلية (نكبة بغداد في حرب الاخوين الامين والمأمون على سلطة الخلافة ، نكبة البصرة على يد الزنج في ثورتهم ضد الرق والعبودية ...الخ) وكانت في نهاياتها بعد سنوات من معايشة كتب التراث التي تناولت نكباتنا السابقة ( والمعاصرة : الحرب الاهلية اللبنانية تمثيلا لاحصرا ، سيأتي من يدرس ماقيل فيها ولها ، وقد ذكرتها هنا لأنها كانت الى حد كبير وراء اختياري لموضوع النكبات القديمةوأدبها).
عندما وافق د.عادل البياتي على متابعة الأشراف كانت العلاقات السورية العراقية في آخر شهر عسل بين النظامين في ذلك الوقت . جامعتي كانت في الرباط( جامعة محمد الخامس) اما إقامتي فكانت في الدار البيضاء ، والدكتور عادل كان يدرس في الرباط ، إنما كانت له بعض المحاضرات في جامعة الحسن الثاني في البيضاء ، وهكذا كنا نلتقي اسبوعيا في مكتب الصديق د. ادريس الناقوري رئيس قسم اللغة العربية . يأخذ د.عادل مني فصلا ويعيد لي الفصل الذي اخذه قبل اسبوع مع الموافقة ومع كلام فيه الكثير من الأطراء والنادر من الملاحظات ( مازلت أحتفظ بكل الذي أشير إليه).
مضى ذلك العام الدراسي (حزيران 1985) وقد أنجزنا أكثر من ثلاثة ارباع الاطروحة وقد سمح لي بطباعة ذلك المنجز على امل ان نتابع الباقي بعد عطلة الصيف مباشرة وان نحجز موعدا للنقاش قبل نهاية الفصل الاول التالي .
مع بداية العام الدراسي الجديد 85/86 ذهبت كعادتي أنتظر د.عادل في قاعة مكتب الصديق الناقوري ولكن د. عادل غادر ولم أره ، وقد تكرر ذلك في الأسبوع التالي ، وفي الثالث انتظرته على باب القاعة ، وبعد كلام غامض تركني لأن زملاءه يستعجلونه .
رؤوس العباد
تأكد لي ، وكانت العلاقات السورية العراقية ، قد عادت الى التأزم مجددا ، ان السبب هو هذا التأزم الذي تقع عقابيله على رؤوس العباد من هنا وهناك .
ناقشت الامرمع الصديق د.ادريس الناقوري ، تدخل ، ثم اقتنع معي ان السبب "سياسي" ، وأبلغني ان د.عادل مستعد للمتابعة بعد موافقة الملحق الثقافي العراقي في السفارة بالرباط ، واقترح ان نقابل معا الملحق الثقافي العراقي فهو يعرفه ، وقد افترض انه "سيحل الامر " ، رفضت الفكرة تماما ، وأدركت ماهو المطلوب مني ، فوافق مشكورا أن يذهب اليه من دوني ولكنه عند العودة وافقني على تصوراتي وكان قد رفضها عندما ذكرتها أمامه بدءاً ، لكنه حصل على وعد بحل المشكلة ، حاول ثانية ، وحاولت صديقة شاعرة من لبنان تعرف الملحق مشكورة (هي الشاعرة مي ناصر بدوي) ، وبقيت الأمور تنوس بين الوعد والإرجاء تخللها غياب الملحق قرابة الشهر ( بسبب صحي يخص ولده).
أطلت -- اعرف -- ، ولم اقل بعد ُ شيئا عن الانسان الكبير "حميد سعيد" .
في نيسان 1986 عقد اتحاد كتاب المغرب مؤتمره العام في الدار البيضاء ، وقد جرى العرف ان يدعى الأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب لحضور مؤتمرات الاتحادات والروابط الادبية في الأقطار العربية ، كان الأمين العام في ذلك الوقت هو الشاعر حميد سعيد ، وكان" المرحوم" صديقي سلمان صبح مدير وصاحب دار ابن رشد(البيروتية) في المغرب في تلك الفتـــــرة وهو صديق للشاعر حميد سعيد .
ممن دعي لحضور المؤتمر الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي وكان مديرا للمركز الثقافي العراقي بمدريد(في تلك الفترة كان قد صالح النظام ) . ولما كنت على علاقة طيبة معه يمكن وصفها بالصداقة ، فقد قررت مع السلام عليه ان "أشكو" ابن عمه له .
بموعد مسبق رتبه صديقي سلمان صبح مع الامين "حميدسعيد" التقينا في فندق المنصوربالسادة (مع حفظ الألقاب ) : حميد سعيد ، عبد الوهاب البياتي ، د.محسن الموسوي (رئيس اتحاد كتاب العراق ، ورئيس جامعة المستنصرية ببغداد ، وهو بالتالي رئيس د.عادل جاسم البياتي الموفد من تلك الجامعة للتدريس في المغرب) ، وسلمان صبح وانا . بعد السلام والتحية شرحت لهم وضعي الدراسي ومشكلتي مع الملحق الثقافي العراقي ومع د.عادل المشرف . كنت في جلستي الاقرب الى الشاعر البياتي ، وعلى طريقته المعهودة " شتم" ابن عمه وقال لي بعد قليل سيأتي و..و..متوعدا إياه . كان الشاعر حميد سعيد الأقرب الى رأس السلطة في العراق ، ولربما التقينا قبل سنوات في المغرب لقاء عابرا لكنه لم يكن كافيا ليتذكر احدنا الآخر ، اما د. محسن الموسوي فكنت التقيه للمرة الأولى ، وقد اشار الى ان د. عادل رجل مسالم وطيب . ثم جاء الدكتور عادل . سلام وتحية ، "وشتيمة" ودودة رقيقة من قريبه الشاعر عبد الوهاب ةالبياتي ، استفسر الشاعر حميد سعيد من د. عادل جاسم البياتي عن امر الإشراف من البدء وحتى التوقف ، وجاء الكلام موافقا لشرحي .
مصالح ضيقة
ماأروعك ياحميد سعيد ! ، ماأروع العربي عندما تتغلب عروبته على كل كدر آخر ، ماأروع المسؤول عندما يكون أكبر من منصبه ، ماأروع الإنسان عندما تكون القضايا اهم من المصالح الضيقة .
كان كلام الشاعر الامين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب درساً عربيا وحدويا إنسانيا معا .
( ماذا يريد ملحقك الثقافي ؟ الا يعرف ان هناك عربا لايقبلون ان ينزلوا عن تلك المرتبة الى درجات أدنى ؟ وهل خلاف الانظمة يلغي عروبتنا وعلاقاتنا ؟ ولو فكرنا بأفق ضيق فإن صديقنا قد قام بما كان يتوجب ان يقوم به دارس عراقي ، لقد تجاوز قطريته وهو الآن يعاقب على ذلك من المعنيين بأمر هذه الدراسة أولا إذا حبس المرء نفسه في سجن القطرية المقيت).
استمر بهدوئه المعهود دقائق ودقائق يتحدث بلغة عربية وصفاء عربي ونبرة عربية وروح عربية .
قد أكون نقلت بعض مفرداته وأفكاره ، لكنني آمل ان أكون أوصلت شيئأ من الجو الأخلاقي العربي الإنساني الذي ضمنه كلامه .
عدنا -- بعد ذلك -- إلى سيرتنا الأولى ( المشرف د. عادل جايم البياتي وانا )، أعطيه فصلا من الأطروحة فيأتيني به في الاسبوع التالي ، وانتهينا مع نهاية العام الدراسي ، وسمح لي بإتمام الطباعة ، لكن زيارة شيمون بيريز رئيس وزراء العدو للمغرب في مطلع آب من ذلك الصيف ، وقطع العلاقات السورية المغربية أفسد علي الامر ، وذللك شان آخر هنا . ( ناقشت الرسالة في الجامعة اللبنانية بعد عودتي القسرية).
سأشير ضمن السياق نفسه إلى انني التقيت بالشاعر "الصديق " حميد سعيد بعد ذلك في دمشق سنة 2001 ? كنت مقررا لجمعية الشعر في اتحاد الكتاب ، وكنا نقيم وقتها مهرجان ربيع الشام الشعري ، دخل الصديق الشاعر خالد ابو خالد مع الشاعر حميد سعيد ، كنت على المنصة ، وبعد ان انتهى أحد الزملاء الشعراء من القاء نصه أراد الصديق خالد ان يعرف بالضيف القادم معه كما هو اامعتاد فرجوته ان يترك لي هذه المهمة ، واستأذنت الحضور وحدثتهم عن هذا العربي الشهم الشاعر حميد سعيد وما فعله معي في المغرب .
مهرجان التضامن
والتقيته في بغداد حين شاركت أواخر سنة 2002 بمهرجان المربد الشعري / مهرجان التضامن مع العراق الشقيق ضد التهديدات الامريكية . كان مسؤول مكتبة " بيت الحكمة ". وعلى سابق عهده كان الشهم الودود ، اصطحبت في تلك الزيارة صديقنا الشاعر أحمد يوسف داوود ، وقد فتح لنا باب المكتبة لنأخذ منها مانريد . ثم زرنا في اليوم التالي كربلاء والكوفة والنجف والحلة بواسطة ناقلة من عنده ( مع الاصدقاء احمد يوسف داوود ، وانتصار سلبمان ، وتوفيق احمد).
حميد سعيد ، اطال الله بعمرك ايها العربي الشهم ، ومتعك بالصحة .