تركيا وسدودها والكارون وتحويل مجراه
بعد أن أصبح ماؤه غوراً .. العراق مهدّد بالفناء
قتيبة ال غصيبة
بعد مرور أكثر من 19سنه على غزو العراق واحتلاله من قبل الامريكان وحلفائهم؛ أصبح اليوم غارقا بالمصائب والأزمات؛ فأزمة الغذاء العالمية المتفاقمة وشحتها وارتفاع أسعارها بسبب الحرب الاوكرانية ؛ والتي أصبحت تلقي بظلالها على العراق بشكل كبير بالتزامن مع شحة المخزون الاستراتيجي من الحنطة وباقي الحبوب فيه؛ وقلة مساحات الاراضي المزروعة بسبب الجفاف ؛ إذ وصلت في هذا العام الى نسبة 25 بالمئة ؛ واعتماده على المحاصيل المستوردة؛والارتفاع الكبير في معدلات التلوث البيئي والتصحر الذي يشهده البلد؛بسبب الجفاف؛ وقلة مناسيب المياه في الانهار، مع تداعيات إرتفاع أسعار السلع والبضائع وتأثيرها السلبي على حياة المواطن ؛ بسبب إنخفاض قيمة الدولار مقابل الدولار ، بالاقتران مع الفساد ألاداري والمالي والمجتمعي المتزايد؛ الذي يحصل في ظل عجز حكومي وفوضى سياسية وأمنية تتفاقم يوما بعد يوم ؛ أدى ذلك كله إلى إحباط كبير لدى الشعب العراقي وخنق طموحاته وأمله بالمستقبل؛ ولسان حالهم يقول؛ بما قاله المتنبي :
رماني الدهرُ بالأرزاء حتى...
فؤادي في غشاء من نبالِ.
فصرتُ إذا أصابتني سهام....
تكسرت النصالُ على النصالِ.
العراقيون منذ أن حطوا رحالهم في بلاد النهرين العظيمين " دجلة والفرات" وروافدهما؛ وهم ينعمون بالعطاء الزاخر لإرضٍ وصفت بالسواد لكثافة بساتينها ونخيلها وزروعها ؛ فدجلة الخير أم البساتين؛والفرات الذي داعبته حضارات وأقدار؛ وروافدهما؛ هي شرايين العراق الدافقة بالخير والعطاء ، إذ ارتبطت حضارات العراق منذ فجر التاريخ؛ بكل قطرة ماء جرت في انهاره وأهواره .. فماذا سيحل ببلاد النهرين بعد أن قُطِعْت شرايينه؟... إنه الدمار والانهيار لبلد استمرت شرايينه تزخر بماءٍ غدقٍ منذ ان خطتها يد الله سبحانه على أرضه.
مماليك قديمة
شهدت بلاد الرافدين منذ فجر التاريخ قيام الدول والممالك العراقية القديمة فيه؛ فقد أولت هذه الممالك اهتماما متزايدا بالمشاريع الاروائية بغية توفير المياه اللازمة للزراعة والاستخدام البشري؛ من أجل تحقيق الامن الغذائي لشعوب تلك الممالك والدول؛ إذ لاتزال الشواهد التاريخية على هذا الامر قائمة لحد الان؛ "عندما قام (أينتيمينا حاكم مملكة لكش السومرية في 2400ق. م)؛ وهي:( مملكة نشأت جنوب العراق ويعود تاريخها الى 2500سنة ق. م؛ وتقع آثارها الحالية ضمن محافظة ذي قار في قضاء الدواية وبمسافة 16 كم جنوباً)؛ بحفر قناة إروائية وجلب الماء لمملكته من نهر دجلة؛ بعد نزاع وحروب استمرت لمئة عام مع مملكة ( أوما السومرية)؛ بسبب سعي حاكم مملكة اوما بمنع وصول المياه الى أراضي مملكة لكش؛فهي اطول حرب مياه في تاريخ العالم ؛ وقدأُستخدمت في شق هذا المشروع أفكار هندسية من خلال الانحدارات والمناسيب والزوايا؛ ولايزال هذا المشروع قائما حتى يومنا هذا؛ تسقي مياهه مساحة كبيرة من الاراضي الزراعية؛ المعروف بنهر الغراف".
بعد الغزو الامريكي للعراق وإحتلاله ؛ وقيام سلطة الاحتلال وعملائهم بتدمير كل المرتكزات الحضارية للعراق ،وفي مقدمتها الزراعة ومشاريع الري؛ والانهيار والضعف الذي اصاب البلد عموما ؛فقد ساهم كل ذلك تشجيع دول الجوار على تمرير مخططاتها في العراق وبما يتفق مع مصالحها الحيوية ، فقد اضحى العدوان المائي على العراق الذي تقوم تركيا وإيران امر مروع؛ يرقى لأن يكون حرب إبادة جماعية؛ نظرا لفداحته؛ في ظل إجراءات حكومية ترقيعية وعجز واضح لإنقاذ العراق من هذه الكارثة وتداعياتها؛ جعلت للاسف من العراق بيئة طاردة للعيش فيه. فقد عملت سلطة الاحتلال الامريكي والحكومات المعينة من قبلها في العراق على اهمال الزراعة والمشاريع الاروائية وتثبيت مستحقات البلد من الحصص المائية في الانهار التي تنبع مياهها من تركيا وإيران؛ وراحت تنفق المليارات من أجل مشاريع عانت من سوء التخطيط والفساد وفي مقدمتها مشروع إنعاش الاهوار؛ الذي أُهدرت بسببه الكثير من الاموال وموارد المياه دون اية جدوى اقتصادية للبلد، وبمرور الوقت فإن هذا ألاهمال الواضح وعدم الجدية من قبل المسؤولين عن هذا الامر في متابعة تثبيت الحصص المائية لإنهار العراق؛ بموجب اتفاقيات دولية معتمدة؛ مع كل من تركيا وإيران؛ والوقوف بحزم ضد تماديهما بحقوق العراق المائية؛بإلاستفادة من الدور النافذ والمؤثر للأمريكان على دول المنطقة؛ لأن نقص المياه اصبح يشكل خطرا محدقا بحاضر العراق ومستقبله . فالتقارير والوثائق الاخيرة؛ تؤكد بأن تركيا "كانت قد بدأت بفكرة الاستفادة من مصادر مياه دجلة والفرات؛ ووضع خطط إقامة السدود بشكل دوري منذ عام 1936 وذلك على مدى خمسة عقود تقريباً، حتى طُرحت بشكل أوضح وأكثر تنظيماً عام 1980 عندما وضعت مخططاً عاماً شاملاً يربط عدداً من المشروعات المائية، سُمي (مشروع جنوب شرقي الأناضول الكبير - Gap) حيث منبع نهري دجلة والفرات؛ والذي أعتبرته تركيا أكبر مشروع في تاريخها؛ بحجة تطوير المشروعات الزراعية والإنمائية، وهو يتكون ما لا يقل عن 22 سداً و19 محطة للطاقة الكهرومائية منتشرة على نهري دجلة والفرات. "، وبما لا يقبل الشك فإن هذه المشاريع قد أضرت بالحصص المائية للعراق كثيرا؛ وبحسب تقرير نشرته صحيفة الغارديان، فقد "أدى إنشاء السدود التركية وتوليد الطاقة الكهرمائيّة على النهرين إلى خفض تدفق المياه إلى العراق بنسبة 80 في المئة وإلى سوريا بنسبة 40 في المئة، واتهمت كل من سوريا والعراق تركيا بتخزين المياه وتهديد إمداداتها من المياه". وبالرغم من استمرار مشكلة المياه بين العراق وتركيا لأكثر من ثمانين سنة؛ دون حلول او اتفاقيات تضمن حقوق العراق في هذا الموضوع الحيوي؛ بسبب امتناع الاتراك عن توقيع اتفاقيات دولية تضمن هذه الحقوق؛ إلا انها اليوم تمر بأصعب حالتها؛ نظرا لما يعانيه العراق من ضعف الارادة الوطنية وعدم قدرة الحكومات المتعاقبة منذ عام 2003بالحفاظ على استقلال العراق وسيادته؛ مما سيؤدي الى تفاقم هذه الازمة التي أصابت مستقبل العراق وأمنه القومي بمقتل؛ فهذا الامر سيكون له تأثيرات خطيرة ليس على الزراعة فحسب؛ بل انها ستؤثر على نوعية المياه وملوحتها وتلوثها وعدم صلاحيتها للاستخدام البشري، فقد نشرت صحيفة "الاندبيندنت البريطانية" عن المخاطر المحدقة بالعراق من جراء عدم اهتمام تركيا بحقوق العراق المائية وفقا للقوانين الدولية: " لقد أنشأت تركيا على نهر دجلة ضمن مشروع Gap ثمانية سدود، وفي عام 2006 وُضع حجر الأساس لأكبر مشروع في تركيا وثالث أكبر مشروع من نوعه في العالم، وهو سد "إليسو" الأكبر على الإطلاق في حجم تهديده لمستقبل العراق. وفي الأول من يونيو (حزيران) 2018 أعلنت تركيا عن بدء عملية ملء خزان السد ومنذ ذلك الحين، بدأت المخاوف تتحول إلى واقع وكارثة بدأت تتكشف ملامحها في مختلف أنحاء العراق من الشمال إلى الجنوب."، وفي تقرير نشرته وكالة الأناضول في أيار 2021: "عرضت فيه بعض التصريحات التي تضمنتها كلمة الرئيس التركي في مراسم تفعيل التوربين الأول (واحد من ستة توربينات) في محطة الطاقة الكهرومائية على سد "إليسو"، قال أردوغان إن بلاده "كانت تملك 276 سداً حتى عام 2002 وإن إجمالي عدد السدود ارتفع إلى 585 في غضون السنوات الـ 18 الماضية (منذ تولي حزب العدالة والتنمية السلطة في البلاد)، خاتماً سنفتح 17 سداً إضافياً أيضاً، يفصل بين افتتاح كل منهم شهر أو أقل من ذلك. وتنذر التقارير والإحصاءات بأن سد اليسو التركي سيؤدي إلى خفض المياه الواردة إلى العراق عبر نهر دجلة إلى 47 في المئة من الإيراد السنوي الطبيعي، الأمر الذي سيهدد مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية إضافة إلى تصحرها، ويجده الكثير من المختصون تهديداً للأمن القومي العراقي، وأن تركيا تستغل الأزمات السياسية والاقتصادية التي يمر بها العراق لتسيير الأمور لصالحها". والغريب في هذا الامر هو قيام السعودية بتمويل هذا المشروع بدواعي الاستثمار.
حسام مهند
فأي استثمار هذا الذي يكون على حساب شعب عربي مسلم مجاور؛ وصدق الشاعر طرفة بن العبد؛ إذ يقول: وظلم ذوي القربى اشد مضاضة... على المرء من وقع الحسامِ المهندِ. إن هذا التوسع التركي في الاستحواذ على حصة العراق من مياه دجلة والفرات ما كان ليحدث؛ لولا قيام العراق بمد الخط الاستراتيجي لتصدير النفط من ميناء جيهان على البحر الابيض المتوسط والذي يمر عبر الاراضي التركية؛ لتلعب تركيا على ورقة " برميل ماء مقابل برميل نفط". كذلك فإن الدور الايراني لم يختلف كثيرا عن ممارسات تركيا في عدوانها المائي على العراق خاصة في السنوات الاخيرة مما ادى الى تفاقم أزمة المياه؛ وإنعكاستها الخطيرة على الامن الغذائي والبيئي في العراق؛ فقد قامت ايران بقطع وتحويل مجاري الانهار الفرعية التي تغذي معظمها نهر دجلة وأهوار العراق وشط العرب؛ فكانت البداية في تحويل مجرى ( نهر الكارون الى اصفهان؛ إذ يعتبر الكارون اكبر الانهار القادمة من إيران ويصب في شط العرب جنوب مدينة البصرة؛ والذي كان مجموع إيراده السنوي سابقا يقدر 27مليار م3؛ حيث اصبحت مياهه التي تصب في شط العرب حاليا عبارة عن المخلفات ومياه المبازل والصرف الصحي مما أدى الى ارتفاع ملوحة وتلوث مياه شط العرب التي تعتمد مدن البصرة وقصباتها عليه في الاستخدام البشري والزراعي.)؛ وكذلك قامت السلطات الايرانية بقطع مياه جميع هذه الانهار التي ترفد نهر دجلة بأكثر من 30 بالمئة من المياه الصالحة ؛ وتحويلها الى الاراضي الايرانية؛ وإن أخطر هذه المشاريع؛ هو مشروع (خط الم?اه الاستوائي/ TWP) فهذا المشروع وفقا لتقارير المختصين : " يتكون من جزئين؛ هدفه الاساسي؛ يكمن في ارواء حوالي (500- 750الف) ألف دونم؛ تغطي مناطق واسعة من كرمنشاه وصولا عيلام وجزء من الاحواز؛ ويشمل عدد من الهياكل المعقدة لمسافة (52) كم لمنظومة نقل المياه و(3) سلسلة انفاق تتجاوز مسافة (8850)كم؛ ومد انابيب بطول (220)كم؛ بالاضافة الى عدد كبير من المضخات؛ ويتم نقل المياه الزائدة من الجزء الاول الى الجزء الثاني لارواء الاراضي الزراعية؛ في دهلران؛ ومهران وجزء من الاحواز." ؛ ويقع نسبة (50 بالمئة) من هذا المشروع والمشاريع الملحقة به في (كرمانشاه) ونسبة الـ(50 بالمئة) الاخرى في عيلام وقسم من الاحواز؛ ويتسبب هذا المشروع؛ في قطع مياه حوض سيروان في ايران والذي يعتبر المغذي الرئيسي لنهر ديالى؛ ويتضمن إنشاء (13) سد؛ بالاضافة الى (5) سدود قاطعة (قنوات تحويلية):وهي عبارة عن سدود قاطعة وانحرافية وقنوات خاصة لتغيير مجاري وروافد نهر سيروان؛ ويعتبر هذا النوع من النواظم من أكثر الاعمال الهندسية خطورة على نهر سيروان/ ديالى، لأن هذه القواطع تعمل على جمع ونقل المياه الى نفق (نوسود) المائي وبالتالي تمنع من دخول المياه الى الاراضي العراق وتحرم العراق من حقوقه التاريخية في حوض سيروان؛ وسيتم نقل ( 1 - 3.1مليار م3) سنوياً من مياه حوض سيروان، وجدير بالذكر فإن معظم سدود هذا المشروع ( TWP) تقع على خط الزلازل لإيران مما يؤدي في حال انهيار اي منها الى فيضانات خطيرة تهدد مناطق محافظتي السليمانية وديالى." إن السرقة للعراق والسلب لحقوقه المائية؛ ستؤثر على مناطق واسعة من محافظتي السليمانية وديالى؛ وتؤدي الى نقص حاد في المياه مسببة كارثة بيئية كبيرة لم يشهدها العراق من قبل إضافة إلى التأثيرات التي ستلحق بنهر دجلة، والغريب في الامر سكوت الحكومة العراقية ازاء تلك التجاوزات الخطيرة من قبل الجانب الايراني على الحقوق المائية للشعب العراقي؛ بالرغم من العلاقة الوطيدة التي تربط حكام العراق بحكام إيران. إن هذا الاهمال الحكومي وعدم الجدية ؛ في معالجة ازمة المياه المتفاقمة مع تركيا وايران وضمان الحقوق المائية للشعب العراقي؛ بالتزامن مع أزمة التغيرات المناخية وارتفاع درجة حرارة الارض والبحار وتقلبات الطقس الشديدة؛ أدى الى جفاف الكثير من الاراضي الزراعية وزحف الصحاري الى المدن ؛واستمرار العواصف الترابية على جميع المدن العراقية؛ واصبح لسان حالهم يردد اغنية محمد عبد الوهاب (ايها الراقدون تحب التراب...)؛ وكل هذا يجري في ظل وضع اقتصادي متردي؛ ومعاناة البطالة بين العراقيين حيث بلغت نسبة العاطلين عن العمل أكثر من 30 بالمئة ؛ بالتزامن مع مخاطر تفشي الفساد الإداري والمالي؛ وإنتشار المخدرات والفساد الاجتماعي؛ انها عملية قتل متعمد وإبادة لهذا الشعب الابي ، والسعي الخبيث للامريكان؛ ووكلائهم وعملائهم ؛دول الجوار العربي والاسلامي في التكالب عليه؛ لتمزيق هذا البلد الذي اصبح في اوهن حالاته؛ وأصبح فاقدا لسيادته؛ وهو أمر لم تشهده أية دولة في التاريخ المعاصر؛ مستهدفين في ذلك قتل اكثر ما يمكن من شعبه ونزوح الناجين من الموت والهلاك ومحاولة محوه؛وبناء عراق يتفق مع المشروع الامريكي القذر في جعل سكان العراق لا يتجاوز (5) ملايين نسمة" ؛وفقا لتصريحات سابقة للسفير الامريكي الاسبق في العراق "زلماي خليل زاده"، وتحويله الى صحاري وجزيرة قاحلة؛ ليس فيها إلا النفط والغاز ؛فهي ثروات ناضبة ،بخلاف الزراعة التي تعتبر ثروات مستدامة في بلد مثل العراق .
والله المستعان على الظالمين؛ وما علينا إلا الصبر والتصدي لإرادة الشر هذه؛ فإن النصر مع الصبر؛ وحسبنا في ذلك؛ هذه الابيات :
ولرب نازلة يضيق لها الفتى ذرعاً.... وعند الله منها المخرج. ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت.... وكنت أظنها لا تفرج.