همسات ساخنة .. ومضات هادئة
لغة الجسد والرسائل المبطّنة في لقاء الشرع
لويس إقليمس
يقول الخبراء النفسيون إنّ للسياسة أيضًا لغةً خاصة بها في ضوء ما يبدرُ عن جسد الإنسان من حركات وإشارات وسلوكيات في اللقاءات الرسمية أو غير الرسمية التي غالبًا ما تصدر للتعبير عن مواقف أو واقع حال أو مشاعر تترواح ما بين السلبية والإيجابية وبحسب القرب في صيغة التفاهم والتوافق والانسجام مع الشخص المقابل أو بعكسه في النفور والاعتراض والاختلاف الذي ينمُّ عن عدم اتفاق وموافقة على سلوك أو مبادرة. ففي هذه الحركات يجري عادة الإعراب عن أحاسيس مختلطة قد لا يجيد فهمها البشر البسطاء. هذا بعكس أصحاب الملاحظة القوية الذين يحلّلون ويراقبون ويتصورون معنىً ودرسًا في كلِّ شاردة وواردة وأية حركة بين الأشخاص المتقابلين، لاسيّما في لحظات شديدة الحساسية والمواقف والأزمات، كالتي سادت وبانت حين لقاء رئيس الإدارة المؤقتة في سوريا «أحمد الشرع» مع مبعوثَي الاتحاد الأوربي، وزيري خارجية فرنسا وألمانيا. والبَلَدان هما من أكبر وأقوى بلدان الغرب الأوربي سياسةً واقتصادًا وتأثيرًا عالميًا.
اقتراف جرائم
لقد بدا واضحًا مدى الإرباك والتوتر في أسلوب اللقاء الذي جمع الدبلوماسيَّين الغربيّين الرفيعين مع شخصية «أحمد الشرع» الجدلية الذي بدا ظاهريًا متزنًا هادئًا وواثقًا من نفسه، وهو الذي كان حتى الأمس القريب من المطلوبين دوليًا بسبب انتمائه السابق إلى فصيلٍ إسلاميّ متهمٍ بل محكومٍ بالتشدّد والتطرّف واقتراف الجرائم حتى النخاع. فما الذي جرى حتى ينشغل العالم بالسعي لتغيير الصورة القاتمة عنه وخلع الغطاء الإجرامي السابق الموسومِ به وتجاه فصيله وأشباهه إلى آخرَ مختلفٍ في الحكم عليه دون وضوح الصورة فيه لغاية اليوم ولا بالاطمئنان الإعلامي الصادر عنه في مسألة تقلباته الفكرية من أيديولوجيا قريبة إلى التطرّف واستبدالها برؤية متزنة للأمور والحقائق الواقعية منذ ظهوره على الشاشة قبل ما يربو على شهرٍ. فالاعتماد على الأقوال والوعود لا يكفي لكونه من الصيغ التي يجيد متفوّهوها كيفيةَ تسويف المطالب والتمنيات والحقائق من أجل كسب المزيد من الوقت والثقة الهشّة لغاية استفحال الواقع المكمون وفرضه بالطريقة التي رسمتها حركتهم الجهادية بالتفاهم والتوافق مع فصائل مماثلة أخرى آثرت الالتئام تحت عنوان تحرّري، في ظاهره وطني متوازن وفي باطنه وحقيقته وجوهره إسلاميّ متشدّد. هذا ما يبدو في واقع الحال لغاية الساعة في ما تقوم به جماعة «ردع العدوان» التي نجحت في «تحرير» سوريا من قبضة نظام الأسد الدموي الذي حكمَ سوريا العريقة متعددة الأعراق والأديان والقوميات بالحديد والنار وسط حمامات الدم وأدوات القمع الهمجي والبطش اللاّإنساني بأبناء الوطن. وما سجونُ النظام وزنازينُها المظلمة إلاّ شاهد لمدى الجرم والقتل والقهر التي استخدمها هو وأعوانُه وأدواتُه وأزلامُه بدعم سافرٍ وغير مقبول إنسانيًا ودوليًا من دولتين أجنبيتين اشتركتا خلال الحرب الأهلية ضدّ الشعب السوري الثائر حين تورطتا بوضع جلِّ قدراتهما من أجل إدامة بقاء النظام السابق وإطالة حكمه بعد أن رفضه الشعب في ثورته التي انطلقت منذ عام 2011، لكنها سُحقت ونُكّلَ بثوارها والمعترضين على شموليته والمنشقّين عنه لغاية يوم سقوطه وفرار رئيسه المخزي غيرَ عابئٍ بشعبه ومصير بلده ومن دون تقديم حتى واجب الاعتراف بالخطأ في تسليم البلاد إلى المجهول أو طلب الصفح عمّا اقترفه هو وأزلامُه بحق الشعب والثوار والبشر الأبرياء.
نعود للغة الجسد في لقاء «أحمد الشرع» مع الوزيرين الغربيّين التي أشبعها المحللون والخبراء والمتابعون لمجريات الأحداث المتسارعة تحليلاً وتعبيرًا وحكمًا واستنتاجًا، ليس في سوريا وحدها فحسب، بل في دول الجوار التي شعرت بحساسية الوضع الإقليمي، تمامًا كما هي حال العديد من بلدان العالم، وعلى رأسها الطرف الدولي الأكثر تأثيرًا في السياسة الدولية. وأقصد هنا أميركا التي تنتظرُ تسنّم رئيسها المنتخب مثيرِ الجدل هو الآخر لمهامه الرسمية بعد أيام من الآن، أي في 20 من كانون الثاني الجاري. فالرئيس دونالد ترامب تتحرك في عقله ونفسه وكيانه الكثيرُ من الأفكار التصحيحية والتقويمية لمعالجة المواقف السياسية المتخاذلة غير الرصينة للرئيس الديمقراطي «جو بايدن» المنتهية ولايتُه قريبًا في هذا التاريخ، ومنها ما حصل لسوريا بسبب ضبابية قرارات إدارته الضعيفة وفريقه المتهالك تجاه هذا البلد الجريح.
لقد بدا واضحًا على الوزير الفرنسي عدم استعداده الكافي لتحية رئيس الإدارة المؤقتة في سوريا عندما صافحه بأطراف أصابعه ومن مسافة بعيدة نسبيًا. كما لاحظنا بما لا يقبل الشك مبادرة الشرع بمدّ يديه أولاً لتحية ضيفيه مع بيانِ نسبة واضحة وقائمة من التوتر ونقص في الثقة بين الطرفين طيلة مدة اللقاء. وهذا سلوكٌ لا تقبله الدبلوماسية حين وجود علاقات متبادلة رصينة طبيعية بين قادة وممثلي البلدان المتزاورة. فقد أثارت الوزيرة الألمانية مثلاً بطلعتها غير الرسمية التي بدت بها أشبهَ ببطلة رياضية تستعرضُ جسدها الممشوق وتتباهى برشاقتها وملابسها الاعتيادية الاستعراضية الجميلة التي لا تنمّ عن صفة دبلوماسية طيلة مدة اللقاء. كما جاء تصريحُها بحسب ما نقلته وسائل إعلام متعددة، بعدم استعداد بلادها لدعم أية هيكليات جديدة أو تقديم وعود أو عهود بالاعتراف ببذرة النظام الجديد غير الواضح في معالم سياسته وطريقة إدارته لمقاليد السلطة التي ينقصُها الاعتراف الواضح بما ينوي القيام به «فعلاً وليس قولاً» بشمول جميع مكوّنات الشعب السوري المثقل بسنوات عجاف بل بعقود من سنوات قاسيات على قلوب ونفوس وأفكار كلّ مواطن.
لا لنظام قندهاري
جميلٌ أن تشهد أولى خطوات قائد الإدارة المؤقتة قرارًا بتوحيد الفصائل المسلحة التي بيدها السلاح وحثّها للانخراط تحت لواء جيشٍ جديد في فكره ووطنيته وتشكيلاته على طريق حماية الوطن والشعب وقدراته. ولكن من دون أن تفرضَ قياداتُ الفصائل التي قادت الثورة ضد نظام الأسد الدموي سطوتَها الأيديولوجية الإسلامية المتشدّدة على غيرها من أبناء الشعب الذين رحبوا بدءً بهذه الخطوة الجامعة للعسكر كي يكون أداة ودرعًا في طريق الديمقراطية والبناء وإعادة الاعمار وليس للنكاية فقط بالنظام السابق والانتقام من شخوصه لأجل الانتقام فحسب. فهناك القضاء الذي ينتقم للضحايا والأبرياء بموجب ما ينصُّ عليه الدستور القائم والقانون الدولي في مثل هذه الحالات والأحداث في محاسبة مَن تلوثت اياديهم بدماء الأبرياء. إنَّ ما يجري خلف الكواليس من قرارات إدارية ووزارية مجحفة بدت واضحة حين تشكيل أول حكومة سورية مؤقتة.
فقد زاد هذا من الشكوك بخصوص نوايا «المحرّرين الجدد» من تحويل البلاد إلى «قندهار طالبان» المتشددة المنبوذة دوليًا في طريقة حكمها المتخلّف في فرض شريعة تعود لحقبة بالية حكمت البشر منذ أكثر من 14 قرنًأ خلت ولم تعد صالحة لعالم اليوم، لا عيشًا ولا فكرًا ولا أداةً ولا وسيلةً ولا رفاهةً ولا علمًا ولا حريةً. فما ظهر في الشارع وعبر وسائل التواصل الاجتماعي من أفعال دخيلة وسلوكيات غير رصينة في مضايقة مجتمعات غير مسلمة في مناسباتها الأخيرة التي أربكت أعيادها إلى جانب دعواتٍ شرعية لتقييد حرية المرأة في المجتمعات غير المسلمة مثلاً تنمّ عن نوايا دفينة تسعى لأسلمة سوريا وحصرها بلونٍ واحد وبفكرٍ قاصر. وهذا ما بدا واضحًا في أولى الخطوات الانقلابية غير الموفقة باتخاذ الحكومة المؤقتة قرارَها بشأن تغيير بعض مفردات المناهج التي لا تتقاطع في طبيعتها الاجتماعية والتاريخية مع وضعية الحالة السورية في اختلافها وتعدديتها وتوجهها المدني- العلماني الذي اعتادت عليه البلاد بجميع أديانها وطوائفها ومللها وإتنياتها المتعايشة منذ قرون. فمثل هذه الحالة لا تبشّرُ بخير من أجل طمأنة الشارع وتهدئة الخواطر ونيل ثقة الأطراف الشعبية والدينية والمجتمعية المتعددة. كما أنَّ الوقت ليس مناسبًا البتة في فرض مناهج مؤدلجة أفرزتها أفكار ورؤى فصائل إسلامية متشددة ضمن حكومتها السابقة في ولاية «أدلب» تحت تأثير فكرٍ إسلاميّ متشدّد لفصائل، بعضُها مرتزقة وغير وطنية عملت إلى جانب مثيلاتها السورية التي قادت ثورة التغيير ونجحت في قلع النظام السابق يوم 8 كانون أول 2024. فمثل هذه القرارات التي فاقت سرعة البرق في اتخاذها تتقاطع في الواقع تمامًا مع الوعود التي أطلقها قائدُ هيئة تحرير الشام أمام الملأ بعدم التجاوز على أية حقوق أو خصوصيات للجماعات التي تشكلُ النسيج الوطني السوري، ومنهم مسيحيوها الذين كانوا يشكلون حتى الأمس القريب ما يربو على 11% من سكان البلد قبل انطلاقة بوادر الثورة الشعبية، بحسب مصادر من داخل سوريا. كما أنها تفتقر إلى مادة دستورية تمنحها الشرعية في اتخاذ مثل هذه التعديلات الأساسية التي لا تحقّ إلاّ بوجود دستور شرعيّ يتيح ذلك وقيام دولة معترَف بها شرعيًا. هذا علاوةً على أنها إجراءات نابعة عن منهج إسلامي دخيل على المجتمع السوري في تسويق الفكر الإخواني المنبوذ الذي فشلَ في مواقع أخرى ولم يُفلح في تثبيت كيانه كفكر «قندهاري» مرفوض محليًا وإقليميًا ودوليًا. فالمجتمع السوري، معروفٌ بطبيعة حياته العلمانية المرحة وسلوكه الاجتماعي المنفتح والمتعايش منذ زمن ضمن شعارٍ توافقيّ وطني «الدّين لله والوطن للجميع». لقد تركت هذه الأفعال الشاذة أثرها السلبي على المكوّن المسيحي السوري «الأنطاكيّ- الروميّ» الأصيل كما على غيره من أبناء الوطن الذين اعتادوا العيش السلمي المشترك. ويبدو أن رئيس الإدارة الجديدة بوصفه هذه الأفعال بالفردية، قد أدرك خطورة الواقع. لكنها في الحقيقة كما وصفها البعض، فهي أفعالٌ تنمُّ عن صراعٍ قائمٍ بين فصائل الثورة التي تغلغلَ إليها أشخاصٌ مرتزقة ينتمون إلى جنسيات أجنبية وغير وطنية وجدوا ضالتَهم في فرض أفكارهم «القندهارية» حاسبين أنهم يحققون نصرًا إسلاميًا في هذا البد الراقي في علمانيته وروحه الاجتماعية المرحة ومدنيته التاريخية.
لعلَّ ممّا أعطى انطباعًا إيجابيًا في الشارع السوري والدولي على السواء، أنّ رئيس الإدارة المؤقتة «أحمد الشرع» في لقائه مع ممثلي عدد من كنائس دمشق عشية رأس السنة الميلادية الجديدة، كان ديناميكيًا في حركاته وأقواله ووعوده. فقد أبدى رغبةً واضحة بمشاركة جميع أطياف الشعب السوري من جميع الأديان والثقافات والقوميات والمذاهب بتحقيق لقاء حواري مرتقب يجمعهم معًا لرسم خارطة البلاد والمساعدة في بناء أساسٍ وطني لدستور لا يقبل بظلم أحد أو استبعاد طرف أو منح امتياز لآخر. فالدعوة لتقويم مؤسسات الدولة من منطلق أيديولوجي بعيدٍ عن النسخة العلمانية والمدنية التي اعتادت سوريا العيش فيه، لا يمكن أن تلقى قبولاً ولو في أدنى درجاته. من هنا ينبغي أن يكون للمسيحيين، كما لسائر القوى الوطنية والاجتماعية والإتنية الأخرى التي تشكلُ كيان دولة سوريا المدنية والتي حصلت على ضمانات وافية من المجتمع الدولي بصيانة حقوقها والحفاظ على خصوصياتها، دورُهم الواضح في بناء دولتهم الجديدة في سياستها وإدارتها وقيمها التاريخية والتراثية بكثيرٍ من الأمل والرجاء. فسوريا كانت وستبقى لجميع السوريين.
فهل يجمع الحوارُ الوطني المرتقب جميعَ الأطياف والأديان والمشارب حول مائدة جامعة لإعادة كتابة دستور جديد يمثلُ الجميع ويضمن الحقوق والواجبات كما ترتأيه حقوق المواطنة الصالحة في وطن مسالمٍ آمنٍ ومستقرّ يلمّهم جميعًا تحت جناحيه؟ وإذ نعلم هذا، فهو لن يكون ممكنًا إلاّ في ظلّ عنوان «دولة مدنية علمانية ديمقراطية» تؤمنُ عن قناعة بحق الجميع في العيش بسلام وأمان واستقرار في ظلّ راية العَلَم الجديد. وللنصيحة، فإنَّ ما وقع للجارة سوريا درسٌ بليغٌ للعراق وشعبه!