الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حلمي وحلم كلارا في (كسارة البندق)

بواسطة azzaman

حلمي وحلم كلارا في (كسارة البندق)

رياض شابا

 

حلمي الطويل الذي افيق منه اللحظة، لا يشبه ما عاشته الطفلة المراهقة (كلارا) في رائعة الموسيقار الروسي الشهير تشايكوفسكي واكثر قطع الباليه شعبية في التاريخ، (كسارة البندق).. الدمية التي تتحول بعد حفلة ليلة الميلاد الى امير شاب وسيم، ثم يصبح فارس الاحلام الذي يصطحبها داخل عالم مدهش. غرفة معيشة وشجرة ميلاد يتضاعف حجمها مع الهدايا والالعاب وكل موجودات المكان الذي يكتسي بالثلج والجليد، و»يُطَعَّمَ» بشوكولاتة لذيذة، وبرقصات وفالسات وموسيقى ساحرة يعدها النقاد العامل الاهم في نجاح باليهٍ باتت مشاهدته تقليدا سنويا لدى الالاف في مدينتي ومدن كثيرة من المعمورة، يتزامن عرضه مع موسم الميلاد الطويل البارد.

حكاية صُنِعَتْ للصغار لكن الكبار ينافسونهم في الاستمتاع باحداثٍ ناقشتُها مع ايمي زوجة نصري وشقيقتها اثر انتهاء العرض، لعملٍ اثيرٍ كتبه الالماني ارنست هوفمان وترجمه الى الفرنسية الكسندر دوماس الكبير. عُرِضَ للمرة الاولى في العام 1892 بمدينة سان بطرسبرغ، ولم يحظ وقتها باهتمام جماهيري واسع، فخضع لمراجعات وتغييرات ونسخٍ مجددة استمرت حتى قرننا الحالي، لكن بداية تالقه الحقيقي كانت في الستينات، وهو العقد الذي حالفني الحظ ان اكون هناك في نهايات اخر عام منه!!

كان اسم المدينة لينينغراد، عندما زرتها في زمن الاتحاد السوفيتي، واُدْخِلَ مسرح البولشوي العريق هناك في منهاج حافل نُظِّمَ ضمن حدث اعلامي وثقافي كبير لمناسبة قرب حلول الذكرى المئوية لميلاد لينين (نيسان 1870_كانون الثاني 1924) شَهدتْ بعض فصوله العاصمة موسكو ايضا. واذكر ان سياحا اميركيين حاولوا مشاكستي مازحين اثناء الاستراحة القصيرة معتبرين اي مشارك لابد وان يكون ماركسيا _ لينينيا، وعندما عرفوا جنسيتي قالوا: اوه.. انت من بلد اشتراكي اذن!

شقراء جميلة

كان بصحبتي زملاء من العالم الثالث اتينا من برلين الشرقية حيث نتدرب ونتعلم ونَطَّلِع. وفيها شاهدتُ اول عرض باليه ارتبط بِمَقلبٍ لن انساه ما حييت، فما ان مرت دقائق على جلوسي، حتى جاءت شقراء جميلة تدعي انني اخذت مكانها مبرزةً بطاقة تحمل الرقم ذاته، فانبريتُ لاثبات العكس على الفور، لكن الدليل كان قد اختفى تماما رغم تفتيشي السريع المرتبك، (فصّ ملح وذاب!)

 كيف حصل ذلك؟ ومن الذي ساناقش معه الإشكال والخجل يعتريني، لان موعد العرض بات وشيكا، واي كلام ممنوع؟ عندها اضطررت الى متابعة العرض من الصف الاخير بعد ان اكدت العمادة انها ابتاعت وبشكل جماعي تلك البطاقة اللعينة التي لم اعثر عليها الا بعد وصولي الى الكلية، ملتصقة بجدار احد جيوب طقمي الانيق الجميل!!

(لا يحصل هذا الا مع («الهير» السيد»غياد شابا كلاّ»).. يقولون ذلك ويضحكون. المان ودودون/ طيبون، جادّون، خرجوا من ركام الحرب الى حياة  يبنونها بثقة تبهر العقول والابصار وبروح اوروبية معاصرة. (اشتراكية بتنورة قصيرة) كما وصفها الصحفي الكبير الراحل عبد الله خياط بعد زيارة قصيرة الى (المانيا الديموقراطية). كان ذلك عندما كنت صحفيا يافعا وتلميذا يحاول ان يتعلم منه الكثير في (المنار) الاسبوعي لعبد العزيز بركات. وبعد ان اصبحت بينهم وعشت مدة تفوق فترة زيارته باضعاف وجدته محقا في جوانب عدة، لكن عيونهم تظل على الغرب ابدا رغم كل نهضتهم تلك، وخصوصا الشباب، لانهم لا يستوعبون جيدا ما حصل مع الاباء والاجداد.

  أندمجُ أنا مع حياتهم تدريجا. صرتُ استقل قطارين كي اعرف طريقي للقاء تلك الطفلة الصغيرة التي تشاهدونها معي في الصورة جالسين على مقعد خشبي في بارك قريب من بيتها ببرلين، غير متوقع انني امام احدى (باليرينات المستقبل).. عراقية تعشق الفن وتكرس بقية حياتها له، تعمل الان بتدريس المسرح والارتجال تحديدا، حصيلة ما منحته اياها تجارب العمر. ابنة خالي (نرمين) التي ستلتحق وامها برب الاسرة الدكتور جميل بوداغ الاستاذ في كلية الزراعة بجامعة بغداد، ومن بيتها ستذهب كل يوم الى مدرسة الموسيقى والباليه التي دخلتها في العام 1973 حتى تخرجها في 1982، واما المشوار التالي فستكملهُ بعيدا عن الوطن.. وهذا حال الطيور المهاجرة ابدا.

بغداد .. بعد برلين وموسكو ولينينغراد

ألم اخبركم بان حالتي تختلف عما مرت به كلارا التي تفيق مع دقات ساعة الصباح، لتكتشف ان ما عاشته لم يكن الا حلما جميلا انتهى؟ حبيبها رجع الى اصله، مجرد دمية «كسارة بندق»، وقاربهما المسحور اختفى مع بقية التقاصيل؟ لكن الامر ليس كذلك بالنسبة لي، فشريط الذكريات يعيدني الى عروض تلفزيونية كان يقدمها طلبة مدرسة مدام لينا للباليه الاهليَّةٌ التي تاسست في العام 1953 حاملة اسم امراة عرفتُ فيما بعد انها يونانية. ثم «مدرسة الباليه العراقية» لمؤسستها لمعان البكري في 1969، دُمجت مع «مدرسة الاطفال الموسيقية» التي لسسها عزيز علي في 1968، كي تولد (مدرسة الموسيقى والباليه) العراقية الرسمية، الاولى من نوعها في البلاد في زمن مشهود تتجدد ذكرياته في الاعماق مثل اغصان تورق في الربيع، واكبتُ خلاله محطات التاسيس في العام 1970 واغلب مدرسيها من مسرح البولشوي.

نشرتُ تحقيقا مطولا في جريدة (النور) البغدادية في الربع الاول من العام 1970 بصفحة مصورة كاملة مع تتمة! ووضعوا اسمي مع التتمات! لو انني كتبت ذلك التحقيق اليوم لرفضت واختصرت!! راجَعَهُ من بعدي الاستاذ عزيز سباهي، عقب امسية لا تُنسى رافقني خلالها المصور مجيد الخالدي لتغطية اول عرض قدمه طلاب المدرسة (عازفين وعارضين) من الذين التحقوا بها وهم في الصفوف المتقدمة. اجريتٌ يومها مقابلة مع السيدة لمعان البكري التي كانت تشرف على المشروع، وصارت اول مديرة ايضا.

سبعينات ذهبية

يومها خلت «لمعان» تحلِّق عاليا من فرط السعادة مثلما يفعل طلبتها  في اماكن التدريب او على المسرح. كانت تكلمني عن خطوة، بل حلم جميل يتحقق في عراق بدا يفتح ذراعيه لعالم خارجي يستجيب له في سبعينات ذهبية، بهدف تقديم فن عالمي راقٍ يحظى بالاحترام، يخاطب الوجدان و المشاعر ولا يثيرها او يستفزها. ثم التقيتها مرات عدة متابعا دائما لنشاة هذا الوليد الجديد، لكننا افترقنا بعدذاك لمدة طويلة تزيد عن الخمسة عشر عاما، حتى كان شتاء 1986 لاراها وجها لوجه في لندن ونستذكر تلك الايام السعيدة، متوترين، خائفين، قلقين بسبب استمرار حرب الثماني، وهي تدخل عاما جديدا سيعيدنا الى الوراء بلا ريب!

لا تحضرني الان تفاصيل منهاج الحفلة الاولى للمدرسة، لكنني حضرت بعض التمارين والتقيت بالمدرسين والمدربين ومعظمهم اجانب. تحدثت الى اجنس بشير زوجة فكري شقيق منير بشير مدير عام دائرة الفنون الموسيقية والمستشار الفني لوزارة الثقافة والاعلام الذي التقيه بكثرة ويكلمني بحماسة هادئة واثقة كل مرة، عن مسيرة يقودها  لاعمال كبيرة مثل مهرجان بابل الدولي، وهو الحدث الكبير الحاضر في ارث العراق الموسيقي المنفتح على فنون الدنيا، واشرافه على مؤسسات وفرق عاشت زمنا مشهودا بِالرُقِيّ والثراء والتنوع، وفي المقدمة منها الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية، الصرح الموسيقي الذي تحظى عروضه اليوم باقبال كبير يملا الصالات غالبا، تماما مثلما اعتدتُ مشاهدته والكتابة عنه لسنوات امتدت حتى الثمانينات رغم الحرب وتداعياتها.. اجواء لم تنل من حرصي على متابعة مشوار الصرح الحضاري الثقافي الاخر، مدرسة الموسيقى والباليه والمحطات التي حلَّقَت فيها بزهو يشبه كبرياء البجع والفة الحمام ورقة الفراشة.

حضرتُ حفلات تخرج المدرسة وشاهدت بعضها في قاعة الخلد ثم في مسارح بغدادية اخرى بعد ان اصبحت مواقع عدة ضمن مناطق محظورة. تعاقبَ على الادارة عديدون، لكنني اتذكر مقابلة مع الشاعر  عبد الرزاق عبد الواحد الذي كان احدهم، والاستاذة ناجحة نايف التي تولت ادارة المهمة في مراحل لاحقة بروح عالية من الجدية والمسؤولية.

زهرات متفتحة

واطلعتُ مؤخرا على كلام مؤرشفٍ لها عن حديث لصحيفة (الشرق الاوسط) يزيدني تفاؤلا بالمستقبل، حيث الخريجون من حاصلي الدبلوم يصبحون عازفين في الفرقة السيمفونية او معلمين في مدرسة اشعر بالفخر كلما قرات اسما لواحدة من فراشات عاصرتُ نموهن مثل زهرات متفتحة. فكيف لا ازهو بالباليرينا نرمين وهي تُذَكِّرنيٌ بكفاحها مع زملائها وزميلاتها.

نرمين، تحيلني ايضا الى ذات نهار تسعيني قائظ اختلطت فيه الدموع بالعرق. يوم من ايام اربعة عشر عاما ثقيلة كلمتكم عنها في مناسبات سابقة تفرغتُ خلالها لادارة محل رياضي في سوق الاثوريين بالدورة، متحسرا على عالم الصحافة الذي عشقته منذ الصبا وتركته مكرها. كنت محملاً بكيس كرات واخر من الحقائب، لم يمنعاني من التقاط نسخة قديمة من جريدة «الثورة» طالها الاصفرار، وجدتها مركونة مع صحف قديمة عند بائع صادفته على الرصيف امام المتحف البغدادي، دفعت الثمن بلهفةِ من عثر على كنز نفيس، وعلى صفحتها الاخيرة قرات عنوان (فراشات الباليه.. بامضاء رياض شابا)!

الم اقل لكم ان حلمي يختلف عن حلم كلارا؟!


مشاهدات 138
الكاتب رياض شابا
أضيف 2025/01/06 - 1:22 AM
آخر تحديث 2025/01/08 - 1:03 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 28 الشهر 3405 الكلي 10093370
الوقت الآن
الأربعاء 2025/1/8 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير