وزير الثقافة والسياحة والآثار أحمد فكاك البدراني لـ (الزمان): رئيس الوزراء دعم مقترحنا لإختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية
□ تحدّيات الماضي لم تمنعنا من النهوض بالثقافة
□ القطاع الخاص شريك في تنشيط السياحة ودعم الثقافة وله نصيب كبير في التطور
□ قريباً اعادة افتتاح مراكز ثقافية في دولتين أوربيتين وأخرى عربية لتعزيز التعاون
□ حافظنا على إرث نينوى بإعادة بناء سور المدينة الأشورية ومنارة الحدباء
قصي منذر
وسألت قائلًا .. معالي الوزير، كيف بدأت الفكرة وهل سيترجم هذا الاختيار إلى مشاريع ومبادرات ملموسة تبرز عمق بغداد الثقافي وحيويتها؟.
- بدأت الفكرة في تشرين الأول من عام 2022، حينما حملت على عاتقي مسؤولية كبيرة في لحظة مفصلية من تاريخ بغداد، العاصمة التي كانت يُكتب ويُقال عنها أنها أسوأ مدينة في العالم، نتيجة لتاريخها الحافل بالأزمات والصراعات، ولكنني كنت على يقين بأن هذا التقييم ليس سوى لحظة عابرة في عمر مدينة تملك من الإرث والتاريخ ما يجعلها تستحق أن تُعيد بناء نفسها من جديد.. ففي كانون الأول من نفس العام وخلال حضورنا اجتماع مجلس وزراء السياحة العرب بمقر الجامعة العربية، رفعت صوتي مطالبًا بجعل بغداد عاصمة للسياحة العربية لعام 2025. لم يكن هذا الطلب مجرد فكرة، بل كان يهدف إلى إعادة بغداد إلى موقعها اللائق، برغم الظلام الذي لفها لسنوات، حيث كنت أسعى إلى تحفيز الجهد الحكومي لبدء حملة شاملة من أجل تنظيف العاصمة وترميم معالمها التاريخية والاعتناء بشوارعها القديمة، وبالأخص شارع الرشيد، الذي طالما كان شريانًا حيويًا في قلب بغداد، والذي أنشئ عام 1916 في عهد الوالي العثماني خليل باشا، كان ولا يزال واحدًا من أعرق الشوارع ويحمل حينها اسم جادة خليل باشا قبل أن يصبح شارع الرشيد في العهد الوطني، ليصبح رمزًا حيويًا للمدينة، كونه يمتد كطريق مفتوح بين عبق التاريخ وتطلعات المستقبل، وشاهد على تطور بغداد في مختلف العصور وعلى جانبيه، تتزين المباني التراثية القديمة، والجوامع التي تشهد على حضارة عظيمة، كالحيدر خانة، وغيرها من المعالم التي تمثل جزءًا من تاريخ بغداد العريق، كما يشكل الشارع رابطًا حيًا بين الماضي والحاضر، ويتفرع منه شارع المتنبي الشهير، الذي يعد معلمًا ثقافيًا وفكريًا، ويصل إلى شارع القشلة او ما يعرف السراي الحكومي، الذي كان مقرًا عسكريًا هامًا في العهد العثماني. وفي امتداد هذا الشارع، يظهر سحر بغداد، الذي يضم قصر الوالي، وقصر الحكومة الملكي، وبيت الحكمة، تلك المنارة العلمية التي قدمت الكثير للإنسانية. فكان هدفنا من كل هذا ليس مجرد ترميم المباني، بل إعادة الحياة لمدينة كانت قد فقدت بريقها في ظل الحروب والاحتلالات وأردنا أن نقول للعالم أن بغداد ليست فقط مدينة مليئة بالذكريات، بل هي مدينة تصنع المستقبل، والآن ونحن نقترب من عام 2025، نرى أن بغداد تستعيد مكانتها كعاصمة حضارية وثقافية وسياحية، ليست فقط للعراق، بل للعالم العربي بأسره بعدما كانت تحمل في طياتها الألم والصراعات، لتقف الآن شامخة، محاطة بماضيها المجيد، ومستعدة لاستقبال المستقبل بكل فخر وقوة.
إذن كانت الخطوة الأولى من شارع الرشيد، وكيف تلقى رئيس الوزراء المقترح ؟
- لقد كان هذا التوجه نقطة تحول كبيرة، حيث حصلنا على دعم كبير من رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، الذي تفهم أهمية هذا المقترح وأعطى توجيهاته العاجلة لتنفيذه، فكان شغوفًا بتحقيق هذا الهدف، وأعطانا دفعة قوية لتحقيق حلم بغداد السياحي بعدما أوعز بتوفير وتسخير كافة الموارد من أجل إحياء المدينة، حيث قامت أمانة بغداد وهيئة السياحة التابعة لوزارتنا بالعمل جنبًا إلى جنب، وخصصتا الجهود لمتابعة هذا الملف الحيوي، وزادت هذه الجهود دعمًا من رابطة المصارف التي شاركت في ترميم جزء من القشلة، مما أضفى طابعًا جديدًا على المنطقة وأعاد لها بريقها، وخلال عامين من العمل المتواصل، بدأنا نشهد تغييرات تدريجية في اعقاب ما ذكر وإنطلاق حملة تنظيف ضخمة لشوارع العاصمة، بعدما تم رفع الحواجز الكونكريتية التي كانت تحجب جمال المدينة، فضلاً عن القيام بترميم واجهات مباني الوزارات التي ظلت مهملة لعقود، نتيجة الحروب والعمليات العسكرية التي فتكت ببنيتها التحتية وشوهت صورتها، وأثقلت كاهلها، لكن الإرادة كانت أقوى من أي تحدٍ.. ومع الدعم غير المحدود الذي تلقيناه، بدأت المدينة تنفض عن نفسها غبار الزمان، لتتحول إلى مشهدٍ فني نابض بالحياة ولوحةً تجمع بين أصالة الماضي وعراقة الحاضر، واضحت المباني التي كانت شاهدة على الفترات الصعبة، رمزًا للانتصار على التحديات، وها هي الآن تبرهن على قدرتها الفائقة على النهوض مجددًا، لتعود من جديد حاضنة للإبداع والثقافة، وتشهد أنها قادرة على الخروج من ظلمات الماضي إلى نور المستقبل.
مشاريع ثقافية
برايكم كيف أسهمت المشاريع الثقافية والفنية في تحسين صورة بغداد؟
- تعد هذه المشاريع الثقافية والفنية جزءًا لا يتجزأ من رؤية الحكومة العراقية للنهوض ببغداد، حيث كانت تهدف إلى تعزيز صورتها كوجهة سياحية وثقافية في المنطقة، فمهرجانات السينما التي تم تنظيمها على مدار السنتين الماضيتين، والتي استقطبت أكثر من 500 فنان عربي لكل حدث، كانت بمثابة نافذة حقيقية للعالم على بغداد، حيث أعطت المشاركين فرصة لمعاينة الواقع الحقيقي للمدينة بعيدًا عن الصور السلبية والنظرة السوداوية للمدينة التي كانت قد تراكمت عبر السنوات، كما أن هذه الفعاليات لم تقتصر على السينما فقط، بل شملت أيضًا مهرجانات المسرح والشعر، إضافة إلى الأمسيات الثقافية التي عادت لتزين شوارع بغداد وتُحيي بها لياليها التي كانت تشهد على عراقتها وتاريخها الزاخر. كما تجلت هذه التحولات في الأنشطة الفنية والمهرجانات عبر إحياء دور الفرق الوطنية مثل الفرقة الوطنية للفنون السيمفونية وفرق الفنون الشعبية، التي قدمت عروضًا متميزة أسهمت في إعادة الحياة الفنية والثقافية لبغداد، وأصبح شارع المتنبي، الذي يعكس روح المدينة الأدبية والثقافية، يُعد من أبرز المعالم الحديثة التي تجمع بين الأدب والفن والعلوم، وكذلك حملات اعمار واسعة شملت المسارح وكورنيش دجلة وغيرها من الساحات المهمة والبارزة في العاصمة بغداد. ولم تقتصر التحسينات على الجانب الثقافي والفني فقط، بل امتدت لتشمل تحسين مظهر المدينة الخارجي، حيث تم تنفيذ مشاريع بيئية بالتنسيق مع وزارتي الزراعة والبيئة، لزراعة أنواع جديدة من الأشجار التي تساعد على تنقية الأجواء وتقليل درجات الحرارة، ما يجعل بغداد أكثر قابلية للعيش، إلى جانب تنفيذ مشاريع بناء الفنادق الكبرى، مثل فندق ريكوسس ومنوفيك، التي ستزيد من قدرة المدينة على استقبال الزوار والسياح الوافدين إلى العراق.. وكذلك البناء الشاخص الذي يمثل البنك المركزي العراقي، الذي صُمم من قبل المعمارية الراحلة زها حديد، إذ يمثل بصمة معمارية فريدة ستكون شاخصة للأجيال المقبلة، لتعكس رؤية جديدة لبغداد في عصرها المعاصر، وتؤكد قدرة العراق على تجاوز التحديات واستشراف المستقبل عبر تصاميم تنم عن إبداع لا محدود واهتمام بالجمال والوظيفة في آن واحد، فكل هذه الجهود كانت تهدف إلى إظهار بغداد كمدينة حيوية تنبض بالثقافة، والفن، والتاريخ، وتثبت للعالم أنها مدينة قادرة على التغيير والإزدهار، برغم كل التحديات التي مرت بها وشهدتها خلال عقود، ومع اقتراب عام 2025، نجد أن بغداد قد استعادت مكانتها المرموقة كعاصمة ثقافية وسياحية، وهو ما سيتجلى من خلال فعالياتها المقبلة في إطار سياحتها العربية.
إذن يمكن القول انك صاحب المبادرة أو المقترح؟
- نعم كانت الانطلاقة من اقتراح تقدمت به مع تسنم مهام الوزارة وبداية تشكيل الحكومة، لكن النجاح الذي تحقق لم يكن ليتجسد لولا الدعم الكبير والجهود الاستثنائية التي بذلها دولة رئيس الوزراء، الذي آمن برؤيتنا واحتضن مشروعنا الطموح لإعادة بغداد إلى مكانتها التاريخية والحضارية. ولقد وضعنا خططًا مدروسة ومتكاملة، ودولة الرئيس أوفى بوعده وسخر لنا كل الإمكانات خلال أعوام 2023 و2024، ليكون هذا المشروع واقعًا ملموسًا على أرض بغداد، وفي العام المقبل، ستشهد العاصمة احتفالات استثنائية غير مسبوقة، إلى جانب استضافة اجتماعات وزارية رفيعة المستوى تجمع وزراء الثقافة والسياحة على الصعيدين العربي والدولي، واستطيع ان أقول: إننا نقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة تُعيد لبغداد مجدها التليد وزهوها الأول، لتُشرق من جديد كمنارة حضارية وثقافية تُبهر العالم وتُثبت انها برغم كل الصعاب، قادرة على النهوض بعزيمة أبنائها وإرادة قيادتها. وبرغم منافسة مدينة العين الإماراتية على اللقب، وهي مدينة تتميز بجمالها الباهر وتُعد عاصمة الجمال في مجلس التعاون الخليجي، إلا أن إرث بغداد العريق وتاريخها الغني كان له الغلبة، ما جعل الاختيار يقع عليها في النهاية.
كيف تمكنتم من تفنيد الصورة السوداوية التي رُسمت عن بغداد والعراق؟
- لا شك أن هناك صورة سوداوية متوارثة ليست عن بغداد وحدها، بل عن العراق بأكمله، حيث ما زالت بعض الدول تُحذر رعاياها من السفر إلى العراق بسبب هواجس أمنية قديمة وقلق لم يعد له مسوغ على أرض الواقع.. لكن اختيار بغداد عاصمة الثقافة والسياحة، يُفند هذه المزاعم بكل قوة ووضوح، ويُعيد رسم الصورة الحقيقية للعاصمة العراقية، فبغداد التي تُوصف بأنها غير آمنة لا يمكن أن تكون جاذبة للوفود الرسمية وغير الرسمية، وأرى أنها أثبتت العكس، إذ أصبحت الآن نقطة استقطاب حقيقية ومقصداً للفعاليات الكبرى والضيوف من كل أنحاء العالم، والدليل الأبرز كانت بطولة كأس الخليج العربي التي أقيمت في البصرة، التي لم تكتفِ بفتح أبوابها للأشقاء الخليجيين فحسب، بل صعدت بهم إلى بغداد والموصل وإقليم كردستان، حينها تفاجأ الضيوف بواقع مغاير تماماً لما سُوّق لهم على مدى سنوات.. استقرار أمني، صدور رحبة، وكرم عراقي أصيل لا مثيل له، لقد كانت تلك اللحظة شاهدة على وبغداد، وباتت وجهة تنبض بالأمن والحياة، لتُسقط كل الشائعات وتُعيد رسم صورة مشرقة تليق بحضارة هذا البلد العريق.
هل هناك خطط لاستقطاب الكتاب والمبدعين العرب للمشاركة في هذا الحدث، وما هي رسالتكم للمثقفين العراقيين في الداخل والخارج بشأن هذا الاختيار؟
- رسالتنا إلى المثقفين في الداخل أنكم الركيزة الأساسية لهذا الحدث التاريخي الكبير، وكل منكم يحمل أمانة المساهمة، كل حسب موقعه واختصاصه، ليكون لهذا الجهد أثره البارز في إحياء الوجه الحقيقي لبغداد، أما رسالتنا إلى العراقيين المقيمين في الخارج، فنقول لهم انقلوا للعالم الصورة الحقيقية عن وطنكم، عن العراق الذي يزهو كما كان، عراق الحضارة والمجد، لا عراق الصورة النمطية المشوهة.. ومرحبًا بكم دائمًا في بلدكم، لا فضل لأحد عليكم، سواء كنتم زائرين أو مقيمين، فأنتم مواطنون لكم ما لنا وعليكم ما علينا.واضيف ايضًا إن بغداد اليوم ليست كما كانت في لياليها الحالكة الماضية، تلك الليالي التي كانت فيها المدينة خاوية على عروشها. فالشمس أشرقت في بغداد، والليل يضيء كأنه مرصع بنجوم الفخر والأمل.. اما نهارها فمزدحم بالحياة، وليلها مضيء بضوء القمر، نابض بالحيوية على مدار الساعة، والشوارع تشهد حراكًا لا يهدأ، فتزهو بغداد وتتألق، في مشهد يعيدها إلى مكانتها الحقيقية كعاصمة للحضارة والثقافة والسياحة، وتبعث برسالتها إلى العالم وتقول لقد ولت الليالي السوداء، وحان زمن الشمس الساطعة والأمل المتجدد.
هل ورثت الوزارة تركة ثقيلة وما هو السبب؟
- ورثنا تركة ثقيلة ألقت بظلالها على الثقافة العراقية، نتيجة الظروف الصعبة والتحديات القاسية التي مرت بها البلاد... نعم، كان الحمل كبيرًا، لكننا لم نستسلم، بل حولنا هذا العبء إلى دافع للانطلاق نحو إعادة الحياة إلى الثقافة العراقية، ونجحنا بعزم وإصرار في الوصول إلى جميع محافظات العراق، وإحياء النشاط الثقافي في كل زاوية من هذا الوطن. واليوم نرى التغيير واقعًا ملموسًا، ونعتز حين نسمع من يقول: (لم نكن نعرف أن وزارة الثقافة بهذه الحيوية والتأثير)، هذه الكلمات شهادة على النجاح الذي حققناه، ودليل على أن الثقافة استعادت مكانتها في حياة الناس.لا نقلل من جهود الوزراء الذين سبقونا، فكل واحد منهم بذل قصارى جهده، لكن الظروف الصعبة آنذاك لم تُنصفهم، أما نحن، فقد خدمتنا الظروف واستطعنا أن نستثمرها بأفضل صورة، لنقدم إنجازات تليق بتاريخ العراق الثقافي العظيم، وأوكد إن ما تحقق هو ثمرة عمل دؤوب وتخطيط مدروس وإيمان عميق بأن الثقافة هي نبض الهوية العراقية، وقوة ناعمة تعيد لهذا البلد حضوره وتألقه.
هل تعتقدون أن القطاع الخاص يقوم بدوره في دعم الثقافة والفن في العراق، إن لم يكن كذلك، فما هي الخطط لتحفيزه على المساهمة الفعالة؟
قوة محورية
- نعم.. يعد القطاع الخاص في العراق، قوة محورية لا غنى عنها في مسيرة التقدم والتطور التي نعيشها الآن، فقد كان ولا يزال الشريك الفاعل الذي تحمل على عاتقه مهمة تجديد الحياة في الاقتصاد والمجتمع، وأسهم بشكل استثنائي في إنعاش الثقافة والسياحة، ليضع البلاد في طليعة الدول الجاذبة للمستثمرين والسياح على حد سواء. ومنذ أن وضعت الحكومة خططها واستراتيجياتها الوطنية، كان رئيس الوزراء واضحًا في تأكيده أن القطاع الخاص ليس مجرد داعم، بل محرك رئيس للتغيير والإصلاح، وبفضل هذه الرؤية الثاقبة، سجل القطاع الخاص حضورًا قويًا في العديد من المشاريع التي إعادة بناء صورة العراق المشرقة وجعل من ثقافته وسياحته وجهة تتجسد فيها طموحات البلاد.
شهدت الساحة الثقافية العراقية تراجعًا في الإنتاج الادبي والفني مقارنة بالعقود الماضية، كيف يمكن للوزارة معالجة هذا التراجع؟
- بفضل إرادة لا تلين ورؤية واضحة، استطاعت الوزارة أن تعالج التراجع الكبير الذي طال الساحة الثقافية نتيجة الظروف القاسية التي مر بها العراق. لكن مع استعادة الأمن والاستقرار، عاد الأمل ليزهر في ربوع العراق من جديد، فكانت الثقافة والفنون سلاحنا الأقوى في مواجهة التحديات، ولذا قمنا بتنظيم سلسلة من المهرجانات الكبيرة التي أعادت إشراق العراق الثقافي، من مهرجان المربد إلى مهرجان بابل، والجواهري وأبي تمام، بالإضافة إلى فعاليات ثقافية شملت جميع المحافظات، وجعلت من الشوارع في كركوك منبرًا للفكر والإبداع. وفي هذا السياق، كان اتحاد الأدباء العراقيين نبراسًا يقود الحركة الثقافية إلى آفاق أرحب، كما كانت نقابة الفنانين حاضرة بإبداعاتها، ونقابة الصحفيين كانت الشريك الأصيل الذي ساندنا في نشر رسالتنا الثقافية والفنية، فهؤلاء هم شركاؤنا الحقيقيون في هذه النهضة، الذين حملوا لواء الثقافة العراقية عاليًا وأعادوا لها مكانتها المرموقة، وجعلوا منها رمزًا للثبات والإصرار على تحقيق التقدم والنهوض.
العراق يزخر بإرث حضاري غني، لكنه تعرض لنهب واسع النطاق للآثار هلى مدى العقود الماضية، ما هي آخر جهود الوزارة في استعادة الآثار المنهوبة؟
- بفضل الجهود الوطنية المستمرة، نجحت الوزارة في استعادة عدد كبير من القطع الأثرية التي كانت قد سُلبت من العراق على مر العقود، فقد تمكن رئيس الجمهورية عبد اللطيف جمال رشيد، من استعادة قطع أثرية من الولايات المتحدة الأمريكية عبر زيارة رسمية، بينما نجح رئيس الوزراء في استعادة قطع أخرى خلال مناسبتين متتاليتين. كما تمكنت من استرداد أكثر من ستة الاف قطعة أثرية من المملكة المتحدة، كانت قد أُخذت على سبيل الاستعارة منذ مئة عام، حيث تم تسلمها رسميًا ووضعها في المتحف الحضاري في بغداد، أما جهود وزارة الخارجية لم تتوقف عند هذا الحد، فقد استرجعت قطع أثرية من الأردن ومصر ولبنان، وكذلك من إيطاليا، ولا يزال العمل مستمرًا لاستعادة المزيد من الآثار العراقية التي تُوجد في دول أخرى، حيث يتواصل التنسيق مع سفاراتنا في الخارج لتسليم القطع المفقودة، ضمن الحملة الوطنية التي يقودها رئيس الوزراء في المؤتمرات الدولية التي تهدف إلى استعادة كل ما سُرق أو هُرّب من تراثنا الحضاري، ومكافحة الاتجار غير المشروع بالآثار... وأوكد إن إصرارنا على استعادة هذه الكنوز، هو التزام لا يتوقف، ونحن ماضون في استكمال هذه المهمة التاريخية بكل عزيمة وقوة.
يرى البعض أن الثقافة في العراق تأخذ مقعداً خلفيًا مقارنة بالسياسة والاقتصاد، كيف يمكن تغيير هذا الواقع؟
- بالتأكيد، بعد كل عملية تغيير، تطرأ تحولات عميقة على الواقع، حيث يبدأ المواطن العراقي في إعادة تقييم اهتماماته، ويصبح الشأن السياسي جزءًا لا يتجزأ من حياته اليومية، يتفاعل معه بشكل مباشر ويؤثر عليه بشكل ملحوظ، كما أن التحديات الاقتصادية التي تعصف بالبلاد أصبحت تمس كل جانب من جوانب حياته، وبرغم أن الأضواء قد انصبت على المشهدين السياسي والاقتصادي، فإن الثقافة لم تتراجع، بل واصلت مسيرتها بنجاح وقوة وكانت حاضرت في عشرات المهرجانات الثقافية، وافتُتحت البيوت الثقافية في مختلف المحافظات وبرغم الميزانيات المحدودة، لم تقتصر الثقافة العراقية على حدود الوطن، بل توسعت إلى الساحات العالمية، حيث نظمنا أسابيع ثقافية في فرنسا وتونس، ونحن الآن بصدد إطلاق أسابيع ثقافية في السعودية والبحرين وقطر، أما المركز الثقافي في لندن الذي سيفتتح قريبًا برعاية رئيس الوزراء، والمركز الثقافي في باريس الذي اكتمل إنجازه، بالإضافة إلى المركز الثقافي في الأردن الذي على وشك استعادة نشاطه بعد تجاوز العقبات مع وزارة الدفاع، كلها دلائل على النهوض الثقافي العراقي.
كيف تمكنت وزارة الثقافة، برغم التحديات المرتبطة بتأخير صرف الموازنات، من الحفاظ على مسارها الثقافي؟
- برغم التحديات التي فرضتها الأعوام الماضية نتيجة التأخير في صرف الموازنات، استطاعت وزارة الثقافة تجاوز الصعاب والتمسك بالمسار الثقافي بكل قوة، حيث تم توجيه كل الجهود لدعم المشاريع الثقافية التي تمثل جوهر هويتنا الوطنية، بدءاً من المهرجانات التي احتضنت مختلف الفعاليات الثقافية إلى البيوت الثقافية في المحافظات التي نشأت لتكون نواة للنهضة الثقافية، وهذا يعود إلى رؤية رئيس الوزراء، التي مكنتنا من تحقيق تقدم ملحوظ في تعزيز حضور الثقافة العراقية على الساحتين المحلية والدولية.
ما هو تقييمكم لمستوى التنسيق بين وزارة الثقافة والمؤسسات الاكاديمية والجامعات في رفد المشهد الثقافي؟.
- تشكل الجامعات العراقية القلب النابض للثقافة العراقية، فهي ليست فقط مراكز علمية بل مسارح فكرية تحتضن الإبداع وتعزز الهوية الثقافية، ونحن في الوزارة نعمل جاهدين على تعزيز هذا الدور من خلال التعاون المستمر مع وزارة التعليم العالي، حيث تشارك الجامعات في أنشطة ثقافية ضخمة، تعتبر بمثابة الأرضية الخصبة لإطلاق الأفكار الجديدة والإبداعات المتنوعة، أما الأكاديميون في الجامعات فهم الأساس في عملية صنع القرار الثقافي لدينا، حيث نستعين بهم في تحكيم مسابقات الشعر والرواية والقصة، بينما تعد جائزة الإبداع الكبرى السنوية أبرز تلك الفعاليات التي تُعد نقطة تحول حقيقية في المشهد الثقافي العراقي، واجدد التأكيد مرة أخرى وأقول أن الجامعات هي الروافد الحقيقية للثقافة وهي المصدر الأول للإبداع الذي يواصل تأصيله في كل المجالات.
تأخرت منحة الصحفيين كثيراً برغم أهميتها في دعم الصحافة الوطنية، ما هي أسباب هذا التأخير، وهل هناك جدول زمني لصرفها؟
- النقابات والاتحادات المهنية مثل نقابة الصحفيين، نقابة الفنانين، واتحاد الأدباء، هي الجهات الأساسية في هذا المجال، ونحن في الوزارة نعمل كحلقة وصل بينها وبين وزارة المالية، وعندما تصل إشعارات المنحة، يتم إيداع المبالغ مباشرة في المصرف عبر بطاقة الماستر كارد، دون أن يتم استلامنا لأي أموال، وذلك لتسهيل الإجراءات والتخفيف عن الأدباء والشعراء من عبء المراجعات المتكررة، وللمساهمة في الحد من الفساد، وبرغم ذلك، نواصل مطالبتنا إلى وزارة المالية لتسريع إرسال الموازنة، ومع ذلك نتابع الموقف بنظرة إيجابية.
في ظل الكم الهائل من التحديات التكنولوجية التي تواجهها الصحافة التقليدية، لماذا لم نر مبادرات واضحة من الوزارة لدعم الصحافة الوطنية لتواكب التطور وتتمكن من الصمود والبقاء؟
- نحن في وزارة الثقافة ندرك تمامًا الأثر الكبير الذي تتركه الصحافة في بناء الوعي الوطني وتعزيز الهوية الثقافية، ولذلك فإننا نضع على عاتقنا دعم الصحف الوطنية والعمل على تمثيل نقابة الصحفيين في الخارج من خلال توجيه الدعوات الرسمية للوزراء العرب والأجانب للمشاركة في الفعاليات التي تسلط الضوء على حضارة العراق وثقافته على المستوى الدولي، كما نواصل دعم الإعلام الوطني عبر منح رقم الإيداع من خلال دار الكتب والوثائق التابعة للوزارة، مما يعكس حرصنا على تقديم كل ما من شأنه أن يعزز حضور الصحافة العراقية ويؤمن لها الاستمرارية والبقاء، وبرغم التحديات المالية التي تواجهنا نتيجة الموازنة المتواضعة، التي تفرض علينا قيودًا صارمة في صرف الأموال، حيث لا نتمكن من تغطية العدد الكبير من الصحف التي تصدر عن منظمات المجتمع المدني، إلا أن رئيس الوزراء قدم دعماً استثنائياً لنقابتي الصحفيين والفنانين واتحاد الأدباء.
استراتيجية واحدة
اثارني مقال معاليكم المنشور على صدر الصفحة الأولى في (الزمان) والذي حمل عنوان ( خاسر من لا يملك الا استراتيجية واحدة)، ما الرسالة الأساسية التي تريد ايصالها؟
- الاعتماد على استراتيجية واحدة، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات، هو بمثابة حكم بالإفلاس والضعف.. لا يمكن لأي دولة أو مؤسسة أن تضع مستقبلها بين يدي استراتيجية واحدة، لأن ذلك يعني الدخول في طريق مسدود لا مفر منه، ويجب أن يكون هناك تنوع استراتيجي، ولاسيما في الدول التي تواجه تحديات معقدة مثل العراق. فالتنوع في الاستراتيجيات يوفر حلولًا متعددة ويمنحنا القدرة على التكيف مع المتغيرات المستمرة التي تطرأ على الساحة الدولية. ومنذ تأسيس الدولة، كان وما زال العراق في قلب المخاطر والتحديات الدولية بسبب موقعه الاستراتيجي وموارده الثمينة التي تشكل أطماعًا مستمرة، لهذا، فإن تبني استراتيجية واحدة في مثل هذا السياق هو بمنزلة الرهان على مورد واحد في الاستيراد؛ فإذا تعطل هذا المورد توقفت الحياة وعلى الحكومات العراقية أن تكون على وعي تام بأن الاستراتيجية الواحدة ليست خيارًا، بل خطأ قاتل، وعليها أن تتبنى استراتيجيات متعددة، مرنة وقابلة للتكيف، لضمان استمرارية القوة والسيادة والنمو في وجه التحديات.
إذا كان بامكانكم اتخاذ قرار واحد فوري لدعم الثقافة العراقية، فما هو هذا القرار؟
- المثقف العراقي جدير بأن يكون رائدًا في كل الميادين، فهو حامل إرث حضاري عظيم ينتمي إلى أعرق الثقافات التي شكلت التاريخ الإنساني، أما شبابنا، فهم الأمل والمستقبل، ويحتاجون إلى دعم مستمر لاكتشاف مواهبهم الحقيقية وصقلها، ليتمكنوا من الانطلاق بثقة نحو تحقيق طموحاتهم وبناء وطنهم على أسس من التميز والإبداع.
سمعت ان لديكم زيارة إلى السعودية، ما هدف الزيارة وكيف هي علاقتنا مع الجوار؟
- نشارك في مؤتمر عربي يجسد تلاقي الثقافات، حيث نقدم للعالم أسبوعًا ثقافيًا عراقيًا في المملكة العربية السعودية، بمشاركة فرق فنية وشخصيات ثقافية رفيعة المستوى. لفتح أبواب تعاون ثقافي مع الدول المجاورة مثل السعودية والكويت والأردن، وصولاً إلى إيران وتركيا وسوريا، لأننا نعلم أن ثقافتنا تلتقي وتتداخل مع ثقافات هذه البلدان، وأن روابطنا المشتركة من العادات والتقاليد، بل والتواصل العشائري، تجعل من تعاوننا الثقافي قوة لا يُستهان بها. فنحن، في قلب هذا الشرق، لسنا مجرد جيران بل شركاء في تاريخ وحضارة ممتدة عبر الزمن، واليوم نحن عازمون على تعزيز هذه الروابط الثقافية، على أن تبقى الثقافة العراقية حاضرة، متجددة، ومؤثرة، تُعزّز الفهم المتبادل وتعزز التعايش بين شعوب المنطقة.
ماذا شهدت الموصل خلال تسنمكم المنصب وهل قدمتم لها شيء يليق بارثها ومكانتها؟
- الموصل، تلك المدينة العريقة التي كانت تلقب بـ «سلة خبز العراق»، التي شهدت أروع لحظات التاريخ الحضاري، تسعى اليوم للعودة إلى مكانتها بين مدن العالم. من أرضها الطيبة، التي كانت تحتضن حضارة آشور بانيبال، صاحب أكبر مكتبة في التاريخ، كانت انطلاقاتنا لإعادة بناء ما دمره الإرهاب، وكنّا حريصين على إعادة بناء سور نينوى الأشوري، الذي استعدنا فيه الحجارة الأصلية، وشيدنا الجدران بنفس المواد والتصميم القديم، ليظل شاهداً على عظمة تاريخنا وثقافتنا. ومن بين الخطوات الرمزية الكبيرة التي قمنا بها، كانت إعادة بناء منارة الحدباء، رمز الموصل الذي كان يؤرق قلوب أهلها والعراقيين جميعاً عندما انهارت، فكانت أعينهم تتابع إعادة بنائها لحظة بلحظة، ليعود هذه المعلم إلى مكان ويظل فخراً للمدينة، أما فيما يتعلق بالآثار الدينية، فقد ساهمنا في ترميم جامع النوري الكبير، الذي شهد اللحظات القاسية، إضافة إلى إعادة بناء الكنيسة الطاهرة وكنيسة الساعة، كما أعدنا ترميم العديد من البيوت التراثية المهمة مثل بيت التتنجي وبيت المؤرخ الكبير سليمان الصائغ، بالإضافة إلى أكثر من 120 بيتاً تراثياً، ليظل هذا التراث حياً في شوارع المدينة، كما قدمنا معهد الصناعات الحرفية في بيت زيادة، وساهمنا في تطوير السياحة عبر استكمال مشروع فندق نينوى إيبروي، لتكون المدينة مركزاً استثمارياً سياحياً جديداً، وايضًا عملنا بشكل مستمر في تخصيص الأراضي لبناء فنادق جديدة، ودعمنا جهود الاستثمار بالتنسيق مع الحكومة المحلية. في الموصل اليوم، لا يتوقف الأمل عن الازدهار والتطور، وستظل رموزها التاريخية والشعبية ملهمة للأجيال القادمة. وأقول مختتماً حديثي: قدمت للموصل ما يليق بعظمتها وإرثها التاريخي، مثلما عملتُ من أجل جميع محافظات العراق، بوصفي وزيراً للثقافة والسياحة والآثار، ولكن الموصل، بخصوصيتها كعاصمةٍ للحضارة وأرضٍ للملوك العظام، استحقت مكانةً استثنائية في مسيرتي، فهي ليست مجرد مدينة، بل ذاكرة وطن ورمز للهوية العراقية، وما بذلته من جهود لإعادة بناء إرثها الحضاري وترميم معالمها التاريخية كان بمثابة واجب وطني، ليس تجاه الموصل فحسب، بل تجاه كل العراق الذي يرى في هذه المدينة رمزاً للصمود وشاهداً على أمجاد الأمة عبر العصور.