العراقي المغترب
نزار محمود
إنها مرارة خيبة أمل عندما تنتظر طويلاً من أجل أن تحظى بأهل انتميت اليهم، وأزقة ترعرعت فيها، وأصدقاء لم يعودوا أولئك الأصدقاء الذين عرفتهم… لقد خاب ظنك وانت تقلب أمام عينيك في طائرة العودة عشرات من الصور التي تتشوق الى رؤيتها.
كم أزعجك تأخر اقلاع الطائرة، وكم كنت تتمنى أن يسرع قائد الطائرة وأن يختزل الزمن لكي تصل الى وطنك الذي تتشوق اليه.
في مطار الوصول تنتظر حقائبك على أحر من الجمر وتدور عيناك في أرجاء صالات المطار علك تجد من جاء في استقبالك، ويفرح بفرح من جاء من الناس مستقبلاً ومهللاً وحامداً على سلامة الوصول.
حرارة اللقاء لا تدوم طويلاً بسبب ما يعيشه المغترب من غربة جديدة في وطنه! الحياة في هرج ومرج لم يعتدها، وفي تغالب على الكسب والمال. كل ما يراه من “بناء” هو خراب!! فلا سيادة مصانة ولا اقتصاد رصين، ولا هوية وطنية غالبة ولا تكاتف اجتماعي ولا حميمية أسرية.
غذاؤنا مستورد وكذلك دواؤنا، ناهيك عن سلاحنا الذي نحمي به ما تبقى من أعراضنا. وهكذا كل ما نستعمله ونعيشه من تكنولوجيا، حتى خيوط ملابسنا أجنبية وقصات شعرنا على المودة الافرنجية. نتخبط في مناهج تعليمنا ونتوسل بالمدارس والجامعات الأهلية علها تعيننا على النهوض من كبوتنا.
تساءل ذلك المغترب: أين توارت مشاعر الانتماء لعراق التاريخ والمستقبل؟. لماذا شحبت منظومات القيم الاجتماعية التي عرف بها العراقيون أكثر من غيرهم؟ لماذا هذا الانتشار الفظيع لجرب الفساد ونهب المال؟ ما الذي حل بأنفة وكبرياء العراقيين في سيادتهم؟
أين الصناعات، لماذا بتنا نستورد حتى التمر والغاز، ونتباكى على كميات المياه التي نهدرها في سوء إدارة ونقص بناء. جيوش من العاطلين عن العمل رغم شموخ عمارات ورفاهية سيارات وفخامة مطاعم.
في طريقنا الى مركز المدينة استوقفتنا إمرأة مسنة ورجتنا إيصالها الى منطقة تجد فيها سيارات إجرة. ودون سؤال راحت تروي لنا مرارة حياتها مع أسرة ولدها الذي تعيش عنده، وكيف أن لا قرار له أمام زوجته، وهو يعيش الآن في بيت خارج المدينة بعد أن توجب بيع بيت الأب المتوفى وأخذ الورثة لأنصبتهم. المرأة الكبيرة شكرت ربها على منحة الرعاية الاجتماعية وقدرها 120 الف دينار عراقي شهرياً، وهي ما تعادل ثمانين دولار!
جالت في خاطر ذلك المغترب السبعيني قصص قتل العائلة المالكة واعدام عبدالكريم قاسم واغتيال عبدالسلام عارف وتسفير اخيه عبدالرحمن وتنحية البكر وشنق صدام وصور خميني وسليماني والأئمة الأبرار وطائرات الأمريكان.
عاد المغترب الى نفسه سائلاً إياها: هل كان قرار اغترابي صائباً أم خاطئاً؟
لكن ذلك المغترب، رغم ما يؤيد صواب قرار اغترابه، بقي يكابر ويغازل افكاراً قد تكون غرائبية وخطيرة!