أفكار بين شقي الرحى
مفتاح الدخول إلى دولة المؤسسات
عامر حسن فياض
بالانتقال الى موضوع العراق ما بعد الديكتاتورية نجد انه يقف في مرحلة انتقال الى التحول الديمقراطي ولم يصل بعد الى مرحلة التحول الديمقراطي. وكذلك لم يصل الى المرحلة الديمقراطية، فعلى عكس ما يتوهم البعض فأن الديمقراطية لا تؤدي الى نفسها بشكل اتوماتيكي. وان تجربة بلدان العالم المتقدمة ديمقراطياً تثبت لنا ان النظام الدستوري المدني سبق النظام الديمقراطي الى الوجود بسنوات طويلة. فلم تصبح أنظمة أوربا الغربية ديمقراطية الا بعد مرحلة انتقال دستوري مدني، ثم مرحلة تحول ديمقراطي مدني، ثم مرحلة دول ديمقراطية مدنية. (لاحظ ان المدنية مرافقة لكل المراحل). فالاساس هو دولة الانتقال الدستوري المدني، وهي دولة قوية مع المواطن، وليست دولة قوية ضد المواطن، ولا دولة هشة تحت رحمة فرد أو جماعات. انها دولة المؤسسات. انها الدولة المدنية الحديثة.
ان تشخيص المرحلة يؤشر الى ان عراق اليوم يمر بمرحلة انتقالية صنعها تاريخ سيء هو تاريخ الشمولية، ومستقبل صعب هو مستقبل انجاز الديمقراطية. وعليه فأن عراق اليوم يعيش مرحلة تتعايش معها وفيها المتناقضات وتزدحم بالمتغيرات. وأن العلامات الفارقة لهذه المتناقضات وتلك المتغيرات نتلمسها في سلوكيات النخب السياسية التي تراوح ما بين هلاك سياسي وحراك سياسي. والاول (أي الهلاك السياسي) يتمثل في ان اشياء كثيرة تحصل في عراق اليوم هي بعيدة عن السياسة، بصيغتها المدنية، وقريبة من السياسات غير المدنية. فإذا كانت السياسة المدنية تتمثل في بناء مجتمع التسويات لا التصفيات، ومجتمع التنافس لا التنابذ، ومجتمع صحوة المواطنة لا غيبوبة الوطنية فأن السياسات غير المدنية تتمثل بسياسات احياء يحكمهم الاموات، وسياسات التقدم نحو الخلف، وسياسات التواقفية وليس التوافقية، وسياسات الاستيلاء على السلطة وليس المشاركة في السلطة. وتلك السياسات غير المدنية نتلمسها في السياسات الطائفية المذهبية (سنة – شيعة – اسلام – مسيحية) وسياسات عصبية ( عرب – كرد – تركمان...الخ) وسياسات اجتماعية عشائرية (صحوات ومجالس اسناد) وسياسات جهوية مناطقية (دويلة البصرة – دويلة صلاح الدين – دويلة نينوى .. الخ).
وهنا نذهب الى الرؤية التحليلية التي وضعها (كينث بولاك) للوضع العراقي من خلال ارتكازه على افكار ميكافيللية، اذ يرى ان افكار ميكافيللي هي افضل دليل لفهم القوى المحركة الفاعلة في عراق اليوم، ووضعه الدائرة الاكبر وهي الشرق الاوسط. فعراق اليوم هو المكان الذي كان ميكافيللي سيفهمه جيداً. فهو دولة ضعيفة تتجاذبها الفئات مع وجود هيكل ديمقراطي غير ناضج يتم تقويضه بشكل متزايد من الداخل والخارج، وهو محاط بجمع ضعيف مكون من كيانات عربية متشظية ودول اخرى قوية غير عربية، على السواء، تسعى إلى الهيمنة عليه أو إخضاعه.
تجدد فوضى
وعلى الرغم من قوة الاصرار اللفظي على استمرار النموذج الديمقراطي العراقي لكن ضعفه يقترن بتهديدات داخلية وخارجية. لذا يبدو إن الاحتمال الأرجح انه يقود العراق اما باتجاه الحكم المطلق أو باتجاه تجدد الفوضى. ولهذا فقد صنف العراق ضمن الدول الفاشلة، ووضع بمرتبة ادنى من الديمقراطيات المعيبة ذات التحول الفاشل او غير المتاح. وعلى الرغم من تحقيق تحسن طفيف خلال المرحلة (2008- 2024) الا انه بقي ضمن التصنيف العام نفسه.
أما الحراك السياسي فتتقاسمه (قسمة ضيزا) تكتلات جديدة قليلة، وتفكيكات قديمة وجديدة كثيرة، وانه حراك صفقات ظرفية أنية ومؤقتة تنظر أولا إلى مصالح فرقاء هذه الصفقة او تلك، ثم تدور أخيرا بل بعد الاخير ايضاً الى الولاء الكلامي لمصالح البلاد والعباد وان حصلت مثل هذه التحالفات الجديدة فانها تحالفات كاشفة (لصفقات) وليست خالقة لامكانيات التغيير والتطوير نحو الأحسن اي نحو بناء الدولة المدنية الحديثة في العراق. واذا كان عراق اليوم بمرحلة انتقالية تتعايش فيها المتناقضات وتزدحم بالمتغيرات فأنه من غير الممكن تأبيد الانتقال، كما من الممكن تجميد المتغير. وعليه فأن هناك حاجة ماسة الى التعامل مع الانتقالي تعاملاً ايجابيا لتجاوز تشوهات العملية السياسية، ولتجنب خطر نمو وحش أو ربما وحوش شمولية في رحم اللحظات الديمقراطية العراقية الوليدة، وهذا التعامل الايجابي يحتاج الى رؤية واضحة ومنهجية متعقلنة. فما هي طبيعة هذه الرؤية؟ وما هي ملامح المنهجية المتعقلنة؟
في عراق اليوم وصلنا الى مرحلة انكار متبادل للتمايز الثقافي والديني، ولم يتم الانتقال الى مرحلة الاعتراف المتبادل بهذا التمايز، والذي يجسد عبر خضوع كل طائفة في شؤونها الدنيوية الى تقاليدها واعرافها الدينية، وما يزال هذا الانكار هو اساس الحوار السياسي من اجل اقامة وحدة وطنية، سواء كان ذلك على صعيد مسالة الاقليات الدينية أو الاقوامية، واصبح التساوي متجسداً في فقدان الهوية وبناء الدولة العصرية، وهذا ما يحصل في العراق المعاصر.فالصراع على بناء الدولة العراقية هو في جوهرة صراع على هويتها ومن يكسب هذا الصراع هو في النهاية سيكون الاقدر على تحديد ايديولوجية الدولة ومن ثم هويتها. وطالما ان الهوية العراقية قد اتسمت بالسيولة التامة في ظل الاحتلال الامريكي، فانها يسرت الذهاب الى ملاذات اخرى بديلة للهوية، مما أدى الى انتعاش الهويات الفرعية من مثل القبلية – الاثنية – الطائفية - الجهوية المناطقية ... الخ.
ان هذا الخلاف حول الهوية، وغياب وجود هوية عراقية ديمقراطية او هوية ديمقراطية عراقية، وضعف العقيدة الوطنية العراقية، وضعف تجانس الشعب العراقي، من شأنه ان يوجد شرخاً ما بين مكونات المجتمع العراقي، وخاصة اذا ما استغلت من الاحتلال والقوى المناوئة للعملية السياسية. وفي هذا الصدد نقول (لأن العراق يشكو من قلة العراقيين) وبذلك لا يقصد قلة عدد السكان، وانما يقصد ضعف ولاء العراقيين للدولة العراقية كدولة.
واذا كانت التقنيات الديمقراطية (مثل الانتخابات تحت الرقابة) سهلة التصدير فان الثقافة الديمقراطية (احترام حقوق الاقليات، حقوق المواطن) يتطلب زرعها في النفوس زمناً طويلا.
كيف نخلط في المحصلة بين مسار الديمقراطية الداخلية عبر الامكانات الموضوعية الملائمة التي يكتنزها المجتمع، وبين فرض الديمقراطية من الخارج دون توافر هذه الامكانات الموضوعية الملائمة؟
وبالنتيجة فان المرحلة التي يمر بها العراق اليوم ليست مرحلة ديمقراطية ولا مرحلة تحول ديمقراطي بل مرحلة (تطعيم) ديمقراطي. وهذا التطعيم لا ينجح في إزاحة أثار وحش الشمولية القديم، وازاحة ممارسات وحوش الشمولية العراقية الجديدة دون تمكين.
والتمكين بقدر ما نكتشف امكانيات ينبغي ان نخلق إمكانيات للعبور بالعراق من المرحلة الانتقالية الى مرحلة التحول الديمقراطي. وليس هناك من كفيل بكشف وخلق الامكانيات للتحول الديمقراطي سوى مؤسسات الدولة المدنية. فالاخيرة (أي المؤسسات) ستكون قادرة على تجاوز تشوهات العملية السياسية، وتحقق المصالحة الوطنية، وتجنيب العراق من توحش الشموليين الجدد في رحم ديمقراطية عراقية وليدة. كما انها (أي المؤسسات) ستكون قادرة على تحقيق المهمات الخاصة بالمرحلة الانتقالية وتتعامل مع متناقضاتها ومتغيراتها وتعارضاتها تعاملاً ايجابياً ايضاً.
اسس ديمقراطية
وهذه المهمات الخاصة بدولة المرحلة الانتقالية (أي دولة المؤسسات والقانون) تتضمن ضمان الامن والاستقرار وبناء المؤسسات على اسس ديمقراطية، واعتماد أليات الاسراع في استكمال السيادة وصيانة الاستقلال وتصفية الاثار الديكتاتورية القديمة والجديدة وانهاء مظاهر المحاصصة والتميز القومي والاستبعاد الطائفي وانهاء التهجير والنزوح القسري وعودة المهجرين والنازحين واحترام التعددية والشعائر الدينية واعمار الوطن.وان تحقيق دولة مستقرة تكون معبرة عن فئات الامة كلها ترتبط هنا بقيام الديمقراطية السياسية القائمة على العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة.
هنا نصل الى نتيجة تفيد بان استكمال بناء دولة المؤسسات والقانون (الدولة المدنية) يمثل مستدعى للدخول في مرحلة التحول الديمقراطي في العراق المعاصر. بمعنى ان التحول الديمقراطي يقتضي استكمال بناء الدولة المدنية بوصفه (أي هذا الاستكمال) شرطاً وجودياً لازماً للتحول. بيد ان هذا الاستكمال لا يؤدي اوتوماتيكياً الى التحول الديمقراطي، ولكن اي تحول ديمقراطي لا يتم دون استكمال بناء دولة المؤسسات وأن مفتاح الدخول الى دولة المؤسسات هو الحكم الصالح.