جمهورية البزاز.. بعض مما حدث في أروقة الجمهورية خلال 1989 - 1992
تقديم : احمد عبد المجيد
يحفل تاريخ الصحافة العراقية، في الحقبتين السابقتين بوقائع وحوادث لن تتكرر، كما لمعت خلالهما اقلام أجادت، بما يؤكد جدارة العاملين في مهنة صاحبة الجلالة او نكوصهم او تنوع ولاءاتهم وتعدد مشارب اهتماماتهم، لكنهم في المحصلة أخلصوا للمهنة التي نذروا انفسهم لها وقدموا لبلاطها الولاء والطاعة، من منطلق ان الوفاء للجمهور والتعبير الصادق عن آرائه وطموحاته واحلامه، معيار أساس لنجاح مهماتهم وتحقيق أهدافهم، وبالتالي الشعور النقي بأن لقمة العيش التي تدخل بطون عوائلهم تجيئ من مصدر رزق حلال ومشروع.
وقد اجتهد المئات من اصحاب الخبرة والكفاءة، طيلة سنوات عملهم في الصحف، لرفع راية التميّز والانتماء النبيل، من خلال الكد والسهر والمجازفة وتحدي الصعاب، ومنها التحديات الامنية ورقابة السلطة.
وكنت غالباً، ما اصور الصحفي، في احاديثي ومحاضراتي، بالجندي الذي يمشي وسط حقل ألغام، فإذا لم يكن مؤهلاً أو رقيباً على نفسه، يفقد حياته ويواجه شتى الظروف والاخطار وبينها القانونية، وتهمة الخروج عن الخط العام للسلطة والمؤسسة.
لقد عمل زملاؤنا، من جيل ناجحة كاظم، بجد وهمة عالية، مدفوعين بالقدرة على المناورة والاستعداد ومواجهة شتى اشكال المفاجآت. كما بذلوا من وقتهم واعمارهم الكثير، لتأكيد ولائهم الوطني وإنتمائهم المهني.
وكنت في معظم الاوقات شاهدا على عطائهم واقتدارهم ومحبتهم للصحافة، ورأيت انهم اختاروا هذا الطريق بمحض الارداة وقوة القناعة. ولو انهم خيروا باستبدال حبهم بحب آخر غير الصحافة، لما قبلوا أو بدلوا تبديلاً.
اسرار ومفارقات
وفي صفحات كتاب (جمهورية البزاز – بعض مما حدث في أروقة الجمهورية خلال 1989 و1992) التي استمتعت بقراءتها وصدق وقائعها، وضعت زميلتنا ناحجة كاظم، بين يدينا خفايا وملفات تم نشر وقائعها في جريدة الجمهورية، أبان تولي الاستاذ سعد البزاز رئاسة تحريرها خلال اربع سنوات، وهي مليئة بالتداعيات والاسرار والمجازفات التي كان الصحفيون في قسم الاخبار والتحقيقات يتولون رصدها وملاحقة جذورها ومسبباتها، متحدين المصير، الذي كان أحد عناوين الحظر والخطر في تلك الايام.وكشفت ناحجة كاظم، بقلم رشيق وذاكرة حديدية، بالاسماء والارقام قصصاً صحفية مبتكرة خرجت عن المعتاد والتقليد، ونحت نحو التجديد وجمال المحتوى، لترى النور على صفحات الورق ويتسع صداها بين الجمهور وسلطة القرار.
وتؤكد زميلتنا ان النجاحات التي تحققت في تلك الايام، ما كان ان يقطف الصحفي ثمارها الا بوجود رئيس تحرير كالبزاز يتصف بالجرأة والقدرة على حماية العاملين معه من أي مصدر من مصادر الخطر أو العقوبة أو المصير المجهول. وأنا شخصياً احتفظ بقصص تدعوني الى الفخر والاعجاب، لأن زملائي سطروها بجهودهم وأقلامهم وكتبوا للاجيال، من بعدهم عناوين ومثابات حية قابلة للاقتداء.ما اعجبني في هذه المذكرات أيضاً، دفق الامتنان والاعتزاز الكامن في سطورها . فناجحة كاظم لم تكتف إنها كانت امينة وصادقة في سرد الحقيقة وتسمية اصحاب الحقوق باسمائهم، وهي صفة حميدة تدخل في فضاء الايثار والوفاء لقيم التاريخ والمسؤولية الاجتماعية ، لكن ما تؤاخذ عليه انها تأخرت في كتابة هذه الاستذكارات أو تعمدت ايقاف اطلاقها، برغم مرور نحو ثلاثة عقود من الزمن على وقوع تفاصيلها.
ومع هذا، فأن اصدارها متأخرة في كتاب خير من عدم اصدارها، او جعلها حبيسة الصدور والادراج، ولعلها ستكون حافزاً لسواها من الزملاء لكي يستعيدوا أدوراهم ويكتبوا عن مراحل من جهادهم ويوثقوا إنجازاتهم. فالذي انجزوه أو قدموه ليس بسيطاً ولا سهلاً أو يستهان به، فلطالما إدلهمت الخطوب وتراجعت المواقف، ولطالما حدثت تضحيات، وكذلك لطالما جاء من يحاول خطف الادوار ونسبتها الى نفسه أو تلميع صور الذين كان يعمل بطانة لهم.
فالحقيقة المطلقة، عملية نسبية والمزاعم يمكن ان تسود لبعض الحقب، لكنها لن تعيش إلى الأبد، ذلك ما تنوي زميلتنا ناجحة كاظم، قوله وتأكيده في هذا الكتاب الذي يترجم حقيقة، ان المؤرخ يوثق الماضي وان الصحفي يرصد اللحظة.