يوميات الحرب في لبنان(5)
الغارة ونقص الدواء والمطر ثالوث الموت
غفران حداد
لازال مئات اللبنانيون ومن مختلف الجنسيات العربية يفترشون شوارع بيروت، بعد أن نزحوا من قصف الغارات الإسرائيلية في الجنوب ومناطق ضاحية العاصمة ، إذ لا توجد خيام كافية للنازحين في الشوارع وان وجدت فهي من دون مدفأة وتمضي العائلات لياليها في ظلام دامس ملتحفةً ببطانيات ، أما الأسر التي تملك مدفأةً فتعتمد في تشغيلها على كل ما هو صالح للحرق، من حطب وبلاستيك وكل ما يمكن أن يشتعل ، هؤلاء النازحون لم يحظوا بمأوى آمن في أية مدرسة أو منزل، فافترشوا بحسرة الكورنيش البحري لبيروت من منطقة الرملة البيضاء وعين المريسة إلى محيط مجمّع البيال وساحة الشهداء ورياض الصلح وباحات جامع محمد الأمين، وصولاً إلى منطقة الحمراء ورأس النبع ومعظم شوارع العاصمة.
هذه المعاناة الجديدة في ظل المطر والبرد ونقص وسائل التدفئة تضاف لمعاناة النزوح ونقص الدواء، وأن كانت الدولة اللبنانية وبعض الجمعيات الإنسانية توفر الطعام ، لكن الكثير منهم ، مرضى أمراض مزمنة وبحاجة ماسة للأدوية وهي باهظة الثمن غير قادرين على توفيرها.
ذكريات الشتاء
ما أصعب ليالي الشتاء الباردة في ظل النوم على الطرقات وهواء البحر قارص وقاسٍ على النازحين ، حين أتأمل أجساد النساء والأطفال التي ترتعش من البرد تستحضرني ذكريات هذه الليالي مع اول زخات المطر من كل عام ، ذكريات لا تُنسى حينما يعبق الهواء برائحة الكستناء المشوية على نيران المدفئة، وتتحوّل هذه الحبيبات البنية المخملية، إلى درجات لونية متدرجة من البني المحمر إلى الأسود المحروق، مع ثبات قلبها الليّن والطري، ويعتبر طعم الكستناء المشوية جزءا من ذاكرتنا، والذي يتأرجح بين نكهة البطاطا المشوية وجوز الفستق، حيث يندمجان معاً في فمنا بلذة لا تُقاوم، في لحظة تحاكي دفء وطعم الشتاء ، كيف لنا أن نعيش هذه الذكريات بهذا الفصل وهنالك أرواح لا تجد أثراً لمنازلها التي سوّيت بالأرض؟ كيف لنا أن نستمتع بحرارة المدافئ وهنالك نازحون جلّ امنياتهم ان يكون لهم سقف يحميهم من المطر ، وجدران تدفئهم من قساوة هذه الأيام الباردة؟
أكلات بيتي
أبكتني فيديوهات تبث عبر نشرات الأخبار المحلية لأمهات نازحات في بعض المدارس وهنّ يشعرنّ بالجوع، إحداهن قالت مللت من اكل الجبن او البيض كل يوم ،اشتقت لطبخ “أكلات بيتي” ، ما أصعب أن يتغرب المرء عن وطنه الثاني ..منزله ؟،ما اقسى شعور اشتهاء طعام بيتك الذي تحبه ولا تجده في متناول يديك؟ ما أصعب أن يخسر الإنسان عمله وكان يعيش معززاً مكرماً وبعرق جبينه ليكون فجأة بلا عمل ، بلا مالٍ يكفيه لشراء ابسط احتياجاته ليجد نفسه مشرداً في وطنه ؟ ويشعر ان وضعه مثيراً للشفقة بعد أن كان هو من يتصدق على السائلين في الطرقات ،يشعر ان هناك من يشفق عليه، صحيح أننا أخوة ونقف مع بعضنا البعض من دون منّة ، ولكن لا يمكن للنازح ان ينسلخ عن هذا الشعور .
مِن الخوف الى الموت
ماذا ينتظر اللبنانيون من مستقبل بعد كل ما مروا به ؟ الخوف من غارات العدو الإسرائيلي، النوم في الشوارع ، نقص الدواء والشعور بالجوع والبرد ، انه الموت البطيء ، فأصبح شعور النازح ان من رحل عن هذه الأرض شهيداً قد شعر بالراحة ، وهم يتمنون الموت او الخلاص ، متى ستنتهي هذه الحرب ؟ متى يستوعب من يموّل عناصر حزب الله في الاستمرار في هذه الحرب أن هنالك شعبٌ يباد ، أرواح مشردة في اوطانها؟ متى يستوعب من يدعّي عشق لبنان ومناصرة فلسطين ، ان مشاعرهم المزيفة هذه باتت مكشوفة ، وهي ليست في مصالح الشعوب ،بل لأجل بقائهم في مواقع السلطة والنفوذ ، ولو على حساب الأبرياء، أدخلتمونا يامن تدعون عشق لبنان في حرب ليس لنا فيها ناقة او جمل، نناديكم بكف ايديكم عن بلادنا، واجهوا اعدائكم وتصفية حساباتكم بعيداً عن نسائنا وشيوخنا واطفالنا ، لا ترسلوا الينا أطنان الغذاء في العلن وتقتلوننا بصواريخكم في الخفاء ، نريد أن نعيش بسلام ، ننادي ولكننا نعلم ان لا حياة لمن تنادي .