الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
بغداد.. جدلية السقوط والنهوض

بواسطة azzaman

أذن وعين

بغداد.. جدلية السقوط والنهوض

عبد اللطيف السعدون

لكأنما كتب على بغداد التي أسماها الكيشيون «عطية الأله» أن تعيش جدلية «النهوض والسقوط» كلما دار الزمان، ولذلك فقد ورث أهلها مجلدات من الشعر والنثر في البكاء على أطلالها، كلما كبت أو تعرضت للدمار، ومن هذا الركام أبيات قيلت اثر حريق تعرضت له أواخر القرن الثاني للهجرة، وأطاح بالكثير من معالمها، لكن شاعرها ظل مجهولا، وهي تبدو كأنها قيلت اليوم:

«بكيت دما على بغداد لما+ فقدت نظارة العيش الأنيق

أصابتنا من الحساد عين+ فأفنت أهلها بالمنجنيق

وقوم أحرقوا بالنار عمدا+ ونائحة تنوح على غريق»

ليس هذا الشاعر وحده من يعزو جدلية نهوض بغداد وسقوطها الى «عين حسود»، فقد وافقه على ذلك عمرو بن عبدالملك الوراق الذي شهد فتنة الأمين والمأمون، فخاطب بغداد باكيا:

من ذا أصابك يا بغداد بالعين+ ألم تكوني زمانا قرة العين

الم يكن فيك قوم كنت مسكنهم+ وكان قربهمو زينا من الزين

أستودع الله قوما ما ذكرتهم+ الا تحدر ماء العين من عيني

كانوا ففرقهم دهر وصدعهم+ والدهر يصدع ما بين الفريقين»

وقد تكرر سقوط بغداد من بعد نهوض، وعرف البغداديون أن مدينتهم لا تكبو الا لتنهض ثانية، والزمان يقسو ثم يصفو، ثم يعاود جدليته كلما دار واستدار.

استباحها هولاكو، وأشعل النار في مساكنها ومساجدها وأسواقها، وألقى في دجلة بكل ما اختزنته من كتب لدرجة أن ماء النهر أخذ لون السواد، لكنها قاومت الموت، وبدأت حياتها من جديد.

مجد الامبراطورية

وسقطت بيد العثمانيين، فأمعنوا فيها خرابا، وأخذوا أهلها الى الحروب من أجل مجد الامبراطورية، لكنها تمردت مرات، واستعادت ألقها وزهوها.

واحتلها الانجليز في الحرب الكونية الثانية، ودخلها الجنرالات «فاتحين»، الجنرال مود قائدا، والجنرال طومسون حاكما عسكريا، وقيل ان القنصل الأميركي، والقنصل الايراني، وحاخام الطائفة اليهودية، وبعض خونتها حضروا لمباركة المحتل وعرض خدماتهم عليه، لكن البغداديين لم يأبهوا لذلك، ووصموا حكم الانجليز بعهد «السقوط»، وتعاهدوا على الخلاص منه.

في عهد الملوك عاودت بغداد نهضتها، لكن «العين الحسود» التي حملها الشاعر المجهول وصنوه الوراق مسؤولية «السقوط» عاودت اختراقها لحاضر المدينة، وأوقعتها بيد «العسكريتاريا» التي سرقت منجز التغيير من أيدي القوى الفاعلة في المجتمع، وكتب روائي معروف من أبنائها، هو الراحل فؤاد التكرلي ينعى سقوطها: «لقد سقطت المدينة، وانهار عالم متحضر حي كان ماثلا»!

مرة أخرى افاقت بغداد، وسعت لبناء مجدها في دورة زمان جديد، لكن حكامها الجدد أخذوها عنوة الى الحروب والحصارات، وأفقدوها قدرتها على التصدي والمجابهة، وعندما غزاها الأميركيون، في التاسع من أبريل/ نيسان الأسود، استغربوا سرعة سقوطها أمامهم، حيث اقتحموا بواباتها في واقعة لا تشبه حتى واقعة دخول الانجليز لها قبل أكثر من قرن.

وهذه المرة عصف بها الدمار كما لم يعصف بها من قبل، اذ اشتعلت فيها الحرائق، واستشهد الكثير من أبنائها، وهم يقاومون، وهيمنت على حكمها مافيات الحقد والجريمة، وعصابات اللصوص والقتلة، لكن ذلك لم يفقد أهلها الأمل في قيامة المدينة، وظلوا يسألون عما دفع بمدينتهم الأثيرة الى السقوط على هذا النحو المريع، وما الذي أودى بقدرتها واقتدارها، لدرجة وصول الغزاة الى قلبها في يوم وليلة، وببضع آليات عسكرية فقط، استقرت في ساحة الفردوس، وفي حينها تبخر الجيش والحزب والفدائيون في لحظة لم تكن فاصلة فحسب، انما مؤسسة لمرحلة هجينة وقاتلة أيضا!

واذ لم يعثر البغداديون على أجوبة شافية فقد أوكلوا أمرهم الى الله، وعزوا سبب «السقوط» المريع، والسريع، والمفاحيء، الى «عين حسود»، كما ذهب أسلافهم من قبل!

لكن ما أثار سخريتهم محاولة من كانوا في السلطة تسويق فكرة أن «السقوط» لم يكن منه بد، والهزيمة كانت محتمة لأن الأمر كان مقررا من قبل أميركا والغرب منذ عقود، هو اقرار يكشف قصور الرؤية لديهم، وفشلهم في التحكم في الأزمة وادارتها، على نحو يحفظ العراق وطنا وشعبا، وهم الذين وضعوا الحكم والحزب في بيئة معادية داخليا، واقليميا، ودوليا، وأوكلوا صناعة الخطط العسكرية، وقيادة الجيوش الى من لا خبرة له ولا دراية، وصموا آذانهم عن نصائح القيادات العسكرية المحترفة والخبيرة، مما سهل على الغزاة النفاذ، من دونما عائق!

 


مشاهدات 281
الكاتب عبد اللطيف السعدون
أضيف 2024/11/16 - 1:07 AM
آخر تحديث 2024/11/21 - 4:07 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 163 الشهر 8867 الكلي 10052011
الوقت الآن
الخميس 2024/11/21 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير