من الخلفي إلى الحجابات من الحب ما سجن
قيس الدباغ
لطالما تحدثنا عن مآسي حرب الثمانينات المريرة، ولكن اليوم سوف ننظر للمأساة من زاوية أخرى، من المعلوم أن صنف “التموين والنقل” في الجيش توجد مقاره في خلفيات الألوية والافواج، ويمرون مرور الكرام على الحافة الأمامية للجبهة، أثناء نقلهم للعتاد والارزاق بعجلاتهم، وكان الذين يتغيبون من الخلفيات يتم معاقبتهم بالارسال في واجبات الحجابات المتقدمة، وهذا الواجب من أصعب الواجبات في وحدات المشاة الفعالة أثناء الحرب، وعليه اتخذ القادة و الآمرون هذه العقوبة لردع المتغيبين في الخلفيات.
كان لدينا جندي بعنوان “سائق” من سكنة بغداد في كل إجازة دورية يتغيب ثلاثة ايام، يتم تقديمه كمذنب بسبب جريمة الغياب، والعجيب أنه يتقبل عقوبة التكرار في واجب الحجاب بروح الفكاهة ويبتسم، وعند انتهاء عقوبته يستحق الإجازة الدورية الثانية وهكذا يعيد التغيب.
في أحد الأيام ،صباحا، عدت لخلفيات الفوج بمنطقة الزبير، بقيت ساعتين وإذ بمفرزة الانضباط العسكري تحضر ومعها السائق قاسم المبتسم دائما ،جاءت المفرزة لتوزع الجنود الملقى القبض عليهم بسبب الغياب على اجازاتهم الدورية، وبسبب ذهاب الضابط الإداري بإجازته الدورية قمت باستلام الجنود الملقى القبض عليهم ووقعت على وصل الاستلام، واستلمت معهم ظرفا مغلقا ومختوما بختم “الاستخبارات” الأحمر، و كان المسكين قاسم المبتسم في يديه جامعة حديدية (كلبجة ) وقال لي أمر مفرزة الانضباط: هذا قاسم ضعوه بالتوقيف لأنه مرتكب جريمة كبرى خذوا حذركم منه لكي لا يهرب.
وبعد مغادرة مفرزة الانضباط جاء الجنود ليسلموا على الموقوفين، وقاسم يبتسم كعادته، قلت له ( النوب غياب وجرائم ) لايزال قاسم يضحك ويهز برأسه غير آبه بما يقال.
جلس قاسم ليشرب الشاي وأنا افتح ظرف الاستخبارات وقرأت فيه، طلب الاستخبارات العسكرية بفتح مجلس تحقيق بحق الجندي قاسم بسبب ارتكابه جريمة انتحال صفة” رفيق” بالحزب، قلت لقاسم ما هذا؟ فحكى لي قصته وهي إحدى مشاكل الدول النامية كما كان ينكت ،الحب من طرف واحد، روى قاسم، انه في منطقة قريبة من سكني توجد فتاة مسيحية تعمل في أحد المصارف الحكومية ،قد سلبت قلب وعقل قاسم المبتسم، والمسكين لايملك أن يصارحها بحبه لها وهي فتاة غاية بالجمال والأدب، وكلما اقترب قاسم منها انعقد لسانه وخارت قواه فيعوض ذلك بابتسامة بريئة، والمسكين بهي الطلعة ووسيم، الفتاة تنظر إليه وتحيه برد الإبتسامة بأخرى بريئة وتذهب في سبيلها.
وكل غيابات قاسم كانت بسبب انتظاره لها بذهابها للمصرف وعودتها، ويحصد بسبب غياباته المكوث بالحجاب قريبا من رصاص قناصي الموت كأنه جندي مشاة، وفي أحد ايام الجمعة جاءته فكرة أن ينتحل صفة” رفيق” بالحزب ويدخل دارها بهذه الصفة بحجة الجرد الحزبي للسكان، تهيأ قاسم واشترى من المكتبة مجموعة أوراق وأقلام جاف ملونة وملفا، وقرع جرس بيتها، خرج والدها وقال أهلا تفضل ابني؛ أجاب قاسم العفو هذا جرد حزبي، رحب والد الفتاة قائلا أهلا وسهلا تفضل، جلس قاسم في غرفة الجلوس، ثم جاءت محبوبته بصينية الشاي والكعك مع هويات الأحوال المدنية، و كانت عينا قاسم متسمرتين على الفتاة التي رحبت به مبتسمة، فجأة قرع جرس الباب ، خرج والد الفتاة وإذ بمجموعة من الرفاق يطلبون الإذن بالدخول لأغراض الجرد ايضا، قال والد الفتاة ولكن رفيقكم جاء قبل ربع ساعة وقال أيضا “جرد حزبي”، دخل الرفاق مسرعين إلى داخل البيت وشاهدوا قاسم وبيده اوراق الجرد، أسقط بيد قاسم، وبعد سؤال وجواب انهالت الضربات على قاسم من كل حدب وصوب، وأمام محبوبته تم سحبه للفرقة الحزبية وأيضا مع ركلات وضربات باعتباره خائنا للحزب والثورة، وتم تحويله للاستخبارت التي قامت بالواجب، وتمت استضافته بالضرب والتحقيق ليتضح لهم فيما بعد أن قاسم امي لا يجيد القراءة والكتابة، وبعد رحلة طويلة وصل إلينا، ولازال يبتسم ومن خلال كل التحقيق والضرب والركل لم يبح قاسم بسبب وجوده في بيت الموظفة مطلقا، ولكنه سرني بذلك.
واتضح لي أن كل السواق يعرفون بحبه القاتل لهذه الفتاة، تعاطفت معه كثيرا وقلت له اسمع يا قاسم لدينا مليون جندي على الجبهات وليس من المعقول أن تترك الاستخبارت العسكرية عملها وتلاحق قضيتك، عليه سوف الغي غيابك وادفن مغلف الاستخبارت بشرط واحد، هو أن تبقى بالخلفي ثلاثة أشهر بدون إجازة لبغداد، وبعدها تنزل لبغداد ولكن لا تذهب لداركم لكي لا يتحرك موضوعك من قبل الحزب، ودفنت قضية قاسم المبتسم إلى الأبد، ولكنه بعد أشهر أعترف بأنه كان يذهب لرؤيتها من بعيد وهو متخف. إذا لم تعشق ولم تدرِ ما الهوى فكن يابسا من جامد الصخر جلمدا .