مقاهي الموت في أوربا تسمية غريبة
فرات المحسن
هناك شعور عند العديد من الناس بحاجة ملحة للحديث مع الآخرين عن الموت كقدر لا مفر منه، فكرة الحديث هذه، محاولة لتقريب الذهن في موضوع “الاستعداد للصعب”. فالموضوعة تتعلق بالدعم العاطفي والعملي والروحي ومستوى الفرد الاجتماعي، وما تكدس في رأسه من أفكار عن كيف يواجه الموت ابتداءً. حيث يتحدث ضيوف المقهى بصراحة ليس فقط عن طبيعة الموت وطريقة اختيارهم له، وإنما عن مسيرة حياتهم وعملهم وعوائلهم وكيف يقضون يومهم وما الدافع الذي جعلهم يفكرون بالانتماء للجمعية والحضور إلى المقهى.
كان الحديث عن الموت موضوعا محظورا ويثير في النفوس خليطا من مشاعر متضاربة مطلية بقشعريرة وتأس وخوف. ليس علينا أن ننظر بعيدا للعثور على هذا المحظور من حولنا. في الوقت نفسه، نشعر بشكل مختلف تجاه الموت عندما يقع بعيدا عنا، سواء كان حقيقة أم خيالا.
ما المعنى القريب لتعريف كلمة الموت، هل هو الصمت،الرحيل،القفر،المتاهة، الهلاك، الاختفاء، الهجر، وربما هناك غيرها من الدالات لمقاربة الكلمة .هكذا يطلب منك أن تضع كلمة مرادفة لكلمة الموت، ولكن تذكر أن هناك دائما اختلافات دقيقة بين المترادفات، وإن كانت تبدو متشابهة في المعنى العام، وسوف تؤثر على السياق العام لاستخدامها، فليكن خيارك دقيقا دون تسرع.
اعضاء غرباء
يأتون إلى مقاهي الموت للحديث عن نهاية الحياة. السؤال البديهي بعد جلسة التمهيد سيكون .كيف تود أن تموت؟ موضوعة خاطفة يصاحبها نقاش متشعب وجدي وهناك أيضا جانب أخر في المقهى يضج بالزبائن ونسائم هواء خفيفة رطبة تداعب الستائر، ويتشارك أعضاء الجمعية الغرباء عن بعضهم، ليس فقط في تبادل الأفكار حول نهاية الحياة، بل يتشاركون في تناول الحلوى مع القهوة، ويدور أثناء ذلك نقاش مفتوح عن الإيمان والمغفرة والحب والمرض.
ولكن جلسة التمهيد للفرد حسب ما تذكره أحدى السيدات المشرفات على الحلقة، والتي لديها خبرة سنين في التعامل مع كبار السن، وهي الآن تتلقى مساعدة من السلطات لإنجاز مهامها، ودائما ما عدها أعضاء الجمعية المثال الرائع للصبر والتضحية وقوة الإرادة. تقول بشكل مبسط، ندفع العضو أن يكون متيقنا من حقيقة رغبته الكاملة لفكرة “ الاستعداد للصعب “
نقول له، استرخ بالجلوس على كرسيك وخذ نفسا عميقا ثم استعرض في ذاكرتك بعضا من أحداث ليست بذات شأن، طارئة عابرة كانت ، ابحث عن صغائر وفتات الأحداث التي وقعت لك وضعها أمامك الآن . لا تستدع الأحداث الدراماتيكية الكبيرة لتملأ شاشة ذهنك بها. نعرف جيدا انك ستجد صعوبة في استحضار تلك الحوادث العابرة ذات الأهمية المعدومة والبعيدة عن حساباتك، فقد تعمدت إهمالها ورميها بعيدا، لأنك شعرت لحظة حضورها بان ليس لها من تأثير حيوي على مسيرة حياتك، ولم تنل منك الأهمية القصوى لتكون رقما في جدول الوقائع التي أثرت بطريقة عيشك، عندها اجعل الموت واحدة من تلك المفردات التي لا حاجة لبقائها عالقة في ذهنك، أو تداورها في حديثك كواقعة بأهمية فائقة. وأكثر ما تمنحها كموت هو فكرة القفز فوقه وعبوره دون ضجة أو ارتباك فهو لحظة عابرة وخاطفة.
استرخ وحاول أن تتناول قهوتك التي اعتدت تناولها في بيتك. نحن سنوفرها لك دون عناء تجبر عليه. ثم وهذا هو المهم إعطنا ما استقر عليه تفكيرك، حين تجد المرادف الذي اخترته لكلمة موت. لنذهب جميعا لمناقشة فكرة العارض الذي يواجه الإنسان وهو الموت، وهو كما نظن طارئ قابل ليكون في طي النسيان، أو إيداعه فوق رفوف الإهمال إن رغبنا ذلك. وأيضا نستطيع أن نضعه في إطار شيء ما. فهو يمتلك صفتين فريدتين الأولى الفجائية والثانية النهائية.وحين يأتي سيكون في أغلب الأحيان مثل اطلاقة مسدس أو ومضة برق وذلك ما نرغبه. إذن هو مثل بقية الأحداث العابرة التي لم تدعها ترسخ طويلا في بالك، لا بل اقل شأنا بكثير منها، وفوق كل ذلك فأنت بعد مواجهتك له بأريحية وطمأنينة ستنتقل معه إلى عالم آخر، وربما إلى اللاشيء، فلا تحتاج إلى تدوينه كواقعة لها قيمتها.
استخدام الهروب
فلنتناول مثلا جانب الأيمان بالقيم الإنسانية، بالأخلاق وتلك السمات والتراكيب ستأخذ منا وطرا من الزمن ليس بالقليل، ولكن المهم أن نتعرف خلالها وبها عن معنى أن يموت الإنسان وهو راضٍ عن ذاته، ومؤمن بقدراته وقوته الخارقة ومكنته في عدم الخوف، وإيقاف ذهنه عن التفكير باستخدام الهروب كمنفذ لأبعاد فكرة الموت. بعدها نعرج نحو معنى الحب بمختلف نماذجه وطبيعته، حبنا للحياة كيف نفسره وما هي رغباتنا لنكون محبين لكل ما يقع عليه بصرنا. نتعمق حتى في حبنا للطبيعة وللحيوانات.
ــ في ذلك نهاية المطاف بالنسبة لي، وبعدها قررت الحضور والمشاركة في نشاط المقهى بعد تفكير معمق بالأمر، وكانت تلك مرحلة نهائية وحدثا دراماتيكيا عشته قبل تسع سنوات.
هكذا يقول الرجل الثمانيني الذي يلوح بيده حين الحديث وكأنه رجل شرقي رغم سحنته الأوربية. في تلك الأيام عانيت من انسداد في الأمعاء و نقلتني بعد يوم موجع من الألم والخوف سيارة الإسعاف إلى المستشفى لإجراء عملية طارئة. خلال الأيام التي بقيت فيها هناك اكتشفت مدى وحدة العديد من المرضى المصابين بأمراض خطيرة ويتلوون من الألم ورعب الموت يحوم حولهم وينط من عيونهم.هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها الرجل بزيارة المقهى والمشاركة في نقاش تلك الموضوعة الساخنة لا بل يظن أنها حيوية وتتقدم على الكثير من المسائل الحياتية.
جليسته المرأة ذات الشعر الفضي بأسنانها اللامعة وابتسامات مشرقة لا تفارق وجهها لتبدو معها الأكثر حيوية من الباقين. كان حديثها شيقا هادئا وبحكاية بسيطة شرحت سبب قدومها والمشاركة في حوار مقهى الموت.كان يوما ممطرا عدت من العمل منهكة فوجدت والدتي ميتة، كان جسدها ممددا في المرافق الصحية وكان وجهها ملاصقا للأرض وهناك خيط دم رفيع قد خرج من أنفها. لا أريد أن يحدث نفس الشيء لي ويفاجئ أبنائي بذلك، أريدهم أمامي واستقبل معهم الموت باحتفال جميل مثلما نحتفل بأعياد الميلاد، من يتأثر بالموت هم الباقون بعدنا، لذا ابحث عن صيغة ليكون الوداع أكثر عقلانية وأخف ألما لهم.
كل فرد في المجموعة روى حكايته وطرح فكرة تداولها باهتمام وأصغى لها الجميع بتركيز واختلف آخرون في بعض حيثيات الأفكار،وبالذات حول توصيف طبيعة الموت واتفق الجميع على أن يتم التجديد بأفكار مبتكرة والحصول على المزيد من المعنويات ليكون «الاستعداد للصعب” لائقا وسهلا .