بعد عشرين عاماً من الإغتراب.. حفيدة سوسة تعود إلى العراق للحفاظ على الإرث الثقافي لجدها
إعادة تأهيل دار سوسة للثقافة ليكون منتدى
رجاء حميد رشيد
سارة الصراف كاتبة واعلامية بارزة كرست وقتها وجهدها لتحقيق حلمها والسير على خطى والدتها الدكتورة الشهيدة عالية أحمد سوسة واحياء ذكرى جدها، العالم والمؤرخ العراقي الرائد، من خلال تأهيل بيته ومكتبته لتكون منبراً للثقافة والادب «دار سوسة للثقافة» في العاصمة بغداد، مما يعكس عمق ارتباطها بالتراث الثقافي والتاريخي للعراق، وعزمها على الحفاظ على الإرث الثقافي لجدها من خلال افتتاح بيبان داره للثقافة في مجلس اسبوعي يثري عقول الاجيال ويجعل التاريخ يتنفس من جديد، في حوارنا معها، سنتعرف على تفاصيل هذا المشروع الرائع، والوقوف على التحديات وتجاوزها.
ما الهدف من اعادة تأهيل بيت ومكتبة جدك؟
- الدافع الأول والأهم هو الدافع الوطني فبيوت العلماء وأعلام العراق هي منارات للالهام الاجيال القادمة وهي ليست ملكا لأصحابها بل هي مزارات للعراقيين يستلهمون منها فكر وتأريخ ونتاجات أسلافهم ممن قدموا للبلد خبراتهم ،الدافع الآخر هو وفائي وارتباطي بهذا البيت الذي قضيت فيه ثلاثة عقود من حياتي وأجدادي الذين منحوني كل الحب في كل مراحل حياتي. فهذه الدار شهدت زيارات ولقاءات أعلام العراق منذ بنائها في حوالي العام 1938 وحتى استشهاد والدتي الدكتورة عالية أحمد سوسة في التاسع عشر من آب 2003.
أما المكتبة ستكون مرجعا للباحثين وهذه أهميتها الحقيقية وهذا برأيي الذي سيخلد أسم صاحبها فهو قضى جل حياته يجمع المراجع والكتب التي استند اليها في نتاجه العلمي الذي يربو على الخمسين مؤلفا بين كتاب وبحث ومقال وأطالس.
هل يمكنك أن تحدثينا عن الحياة الشخصية والمهنية للدكتور أحمد سوسة ماهي انجازاته التي تفتخرين بها؟
- هذه الانجازات هي محل فخر للعراق وابناءه أولا وانا افتخر بها لأنني عراقية ثم لأنني حفيدته, ما قدمه الدكتور أحمد سوسة من نتاج غزير هو الذي يتحدث عن نفسه، ولد سوسة في بلدة الحلة جنوبي العراق تولع منذ صغره بالآثار والتاريخ فكان يزور المواقع الأثرية المجاورة لمسقط رأسه وأهمها خرائب بابل وأطلال مدينة كيش الأكدية, ولم تفارقه آثار بابل طيلة الفترة الأولى من حياته حيث كان آجرها الذي يحمل أسماء ملوكها الأوائل على جدران بيوت الحلة التي أنشئت من الآجر المنتزع من بنايات بابل الفخمة.
هندسة مدنية
تأثر سوسة في صباه بمشروع سدة الهندية, الذي صممه المهندس البريطاني السير وليام ويلكوكس وافتتح عام 1913 ليصل بالماء الى بلدة الحلة وقد ترك ويلكوكس أثرا عميقا في نفس الدكتور سوسة رافقه طيلة حياته وقاده الى الغوص في بحور الري والحضارات القديمة تلقى الدكتور سوسة دراسته الأولية في مدرسة الأليانس الفرنسية في الحلة 1907ثم شد الرحال الى لبنان ضمن أول بعثة من الطلبة العراقيين ليتم دراسته الاعدادية في الجامعة الأميركية ببيروت 1924 الولايات المتدة الأميركية كانت المحطة التالية ليحصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية من كلية كولورادو 1927فشهادة الماجستير من جامعة جورج واشنطن 1928تلتها شهادة الدكتوراه بمرتبة الشرف من جامعة جونز هوبكنز 1930 وهو أول مهندس عراقي يتخرج في الجامعات الغربية.
عشق سوسة تاريخ العراق القديم ومايتصل به من حضارات قديمة في وادي الرافدين وصلتها بالزراعة والري فواضب على دراستها وعلى تفحص المواقع الأثرية من أنهر وتلال قديمة زارها كلها بحكم عمله في مجال الري ودرسها دراسة معمقة فأصبح خبيرا في كل شبر من تربة وأرض بلاده, عالما في جغرافيته وتاريخه ومياهه متخصصا في مشاريع ريه فأسهم في دراسة وتصميم جميع مشاريع الري العملاقة التي تم تنفيذها بعد ذلك في أوقات مختلفة وتسنم مناصب عديدة في مجال الري وعين مديرا عاماً للمساحة 1947-1957
وخلال فترة خدمته العامة أصدر جل مؤلفاته عن ري العراق القديم والحديث من أهمها كتابه الضخم «ري سامراء في عهد الخلافة العباسية» الذي أصبح المرجع الأساسي لدارسي آثار سامراء ودليلهم في الكشف عن المجهول منها، درس سوسة الخارطات البابلية القديمة التي كان البابليون أول من عني بها ووضع العديد من الأطالس الفريدة والتقارير الفنية في مسح أراضي العراق،أصدر مؤلفه الضخم عن الجغرافي العربي الشريف الادريسي ونال عنه وسام الكفاءة الفكرية من ملك المغرب.
وعمل والدكتور مصطفى جواد معا في المجمع العلمي العراقي لمدة ربع قرن فأثمر عملهما وتجوالهما بين المواقع التاريخية أهم الدراسات التي صدرت عن مدينة بغداد على الاطلاق فثبتا موقع مدينة المنصور المدورة بالنسبة الى مواضع بغداد الحالية ومجرى نهر دجلة الحالي ويعتبر كتابهما» دليل خارطة بغداد قديما وحديثا « المرجع الأساسي الذي اعتمدت عليه جميع الدراسات التي صدرت عن بغداد بعد ذلك. وضع سوسة مؤلفاته عن حضارة العرب وتوجها بكتابه الضخم الموسوعي مفصل العرب واليهود في التاريخ الذي فصل في تاريخ الشرق الأدنى القديم ودور العرب واليهود فيه في ضوء المكتشفات الآثارية الحديثة ومايتصل بدور العرب التاريخي في نمو حضارة فلسطين ويكشف زيف الادعاءات بحق تاريخي مزعوم لليهود في أرض فلسطين وقد أعيد طباعته عدة مرات وترجم الى الانكليزية والفرنسية والاسبانية والألمانية وأصبح مرجعا للبحث وللتدريس في دول عربية وأحدث منذ صدوره دويا هائلا وأثار ردود أفعال واسعة في الأوساط العربية على امتداد الوطن العربي
ماهي التحديات التي واجهتها اثناء عملية تأهيل المنزل والمكتبة؟
- نشهد اليوم مناخا ثقافيا مشجعا خلال السنوات الأخيرة في العراق وهذا ماشجعني على العودة بعد عقدين من الاغتراب حيث أتخذت قرار العودة الى الوطن وبدء مشروع دار جدي وتحويله الى متحف لآثاره والى مركز ثقافي شامل وللحقيقة أنا محاطة بدعم معنوي من الناس وتجاوب كبيرين والتحديات بالتأكيد موجودة ويومية لكنني مؤمنة أن الأهداف الكبيرة تستحق التضحيات والعناء. وربما أكبر تحد أواجهه هو الابتعاد عن الأبناء للمرة الأولى حيث تركتهم في الامارات التي عشت فيها نحو عشرين عاما وكبر الابناء واستقروا هناك.
كيف تري أهمية الحفاظ على ارث جدك الثقافي في السياق الثقافي الحالي؟
- بعد عقود من انشغال الانسان العراقي بالبحث عن أمنه وقوته أصبحنا بأمس الحاجة الى منارات للالهام ومراكز تنوير وقدوة للجيل الحالي وتوالد المراكز الثقافية في كل أنحاء العراق هو بقع للضوء يجب أن تكبر وتستقطب العدد الأكبر من العراقيين،وأنا اعتقد أن إعادة الروح لبيوت أعلام العراق سيسهم في تعزيز شعور الشباب بالهوية والانتماء مما يعزز من ثقتهم بأنفسهم وبتراثهم الثقافي ودراسة تاريخ العلماء وتفكيرهم يمكن أن يساعد في تعزيز الفهم المتبادل بين الأجيال المختلفة وفي إرساء قيم الوحدة والتعاون. هذا التفاهم يمكن أن يكون أساساً قوياً لتطوير المجتمع بشكل إيجابي
هل هناك مشاريع مستقبلية تخططين لها لدعم الثقافة العراقية وتعزيزالمعرفة حول تراث جدك؟
- الانطلاق من «دار سوسة للثقافة» وهو متحف لنتاج العلامة الدكتور أحمد سوسة وهو مركز ثقافي متكامل يستقبل النشاطات الثقافية والاجتماعية سيكون هو هدفي الأول ومنه اخطط للتوسع ضمن الدار لاتاحة الفرصة لدراسة البحوث والمقالات والدراسات في الري والحضارة والتاريخ التي تركها العلامة الراحل واقامة المؤتمرات والحلقات البحثية عنها محليا وعالميا وهناك الكثير من الخطط والأفكار التي تمدني بالحماس والحافز للاستمرار.
ماهي أبرز القطع أو الكتب التي تتمنين أن يطلع عليها الزوار في مكتبة جدك؟
الزائر لدار سوسة سيذهب في جولة عبر التاريخ انطلاقا من الحلة مسقط رأس سوسة ومدينتة الأثيرة مرورا بمدن العراق كافة وسيطلع على الصور والوثائق التي تحكي قصة بلاد الرافدين وعظمة حضاراتها في مجال الري والخرائط والحضارة.
هل لديك أي قصص أو ذكريات شخصية تتعلق بجدك تودين مشاركتها؟
- عندما توفي جدي كنت في السابعة من العمر وأذكر الشيء اليسير من هذه المرحلة لكنني تعرفت اليه أكثر عندما تولت والدتي الدكتورة الشهيدة عالية أحمد سوسة مهمة حفظ ارثه وفتحت الدار لتديم مجلسه الأسبوعي ودأبت على طبع كتبه التي لم يسعفه الوقت لترى النور في حياته وإعادة طبع النافد منها وأنا تعلمت منها كيف يكون الابناء بارين بأهليهم ويواصلون مسيرتهم في خدمة المبادئ التي تربوا عليها.
مصلحة وطن
ماهي النصيحة التي تقدمينها للاشخاص الذين يرغبون في الحفاظ على التراث الثقافي لأحبائهم؟
- مسألة الحفاظ على انجازات مهمة ومشرفة للأجداد تصب في مصلحة الوطن أولا فتخليد الأثر وجعله منارة للجيل هو الهدف الأسمى وأنا اتمنى أن لا أرى منزلأ لأي علم عراقي يهدم أو يتحول الى بناء جديد بدعوى الإرث لأن تلك البيوت هي ملك للعراقيين ومن حق العراق أن يعود الى منارات الالهام ويفخر بأن هذا بيت الشاعر أو الرسام او العالم وغيره. وهكذا نوثق تاريخ هؤلاء الذين قدموا للوطن ونخلد ذكراهم ليصبحوا قدوة لمن يأتي بعدهم
اتألم جدا عندما أرى تلك البيوت تطالها آلة الهدم وأعتقد أن الدولة هي المسؤول الأول في التــــــــــفاهم مع ورثة أعلام العـــــــــراق وتولي الحفاظ على الإرث من الضياع وهذا يأتي في اطار بناء رصيد رصين وتوثيق أساسي لتاريخ أي علم بارز من أعلام العراق وبمـــــــــــختلف المجالات.