ظاهرة الاحزاب السياسية بمفهومها الحديث
نزار الربيعي
تُعد الظاهرة حديثة النشأة ولا يتجاوز عمرها القرن باستثناء احزاب الولايات المتحدة الامريكية، غير ان للأحزاب اصولها التاريخية التي تتمثل في اتجاهات الرأي والنوادي الشعبية، وجمعيات الفكر، والمجموعات البرلمانية، وكانت الاحزاب أو ما شابهها في الماضي تُعد بدعة سيئة ترمز إلى التفرقة ويخشى منها على وحدة الدولة، وينظر اليها بشيء من عدم الثقة.
لذلك وجد جورج واشنطن مؤسس الولايات المتحدة الامريكية ان يحذر منها في آخر خطبة وجهها إلى الشعب الامريكي وقال فيها “انها تؤدي إلى تذكية الروح الاقليمية إلى الشعب الامريكي وقال فيها “انها تؤدي إلى تذكية الروح الاقليمية في إطار الدولة، وتنمي روح الشقاق والانتقام نتيجة السيطرة المتعاقبة لحزب على الآخر، وقد يدفع الاضطراب الناتج عنها الناس إلى البحث عن الآخر في ظل السلطة المطلقة للحاكم.
مبداء الاقتراع
وقد نشأت الاحزاب السياسية في العصر الحديث مع التزايد الهائل في اعداد الناخبين الذي صاحب انتشار مبدأ الاقتراع العام في القرن التاسع عشر أوجد الناخبون انفسهم مجرد جمهور عريض من اصحاب الحقوق السياسية، غير قادر على تحديد اهدافه العامة أو مناقشة مشاكلة اسهامه فظهرت الحاجة إلى تنظيمات شعبية يتجمع حولها الناخبون، وهكذا قامت الاحزاب السياسية استجابة لحاجة الناخبين اليها، ووضعت البرامج التي من شأنها استقطاب اكبر عدد من اصوات الناخبين لصالح مرشحيها بهدف الحصول على أغلبية المقاعد البرلمانية في البرلمان مما يمكنها من تشكيل الحكومة، وبذلك اصبحت الاحزاب هيئات سياسية وسيطة تملأ الفراغ القائم بين الحكومة والمواطنين، وقد تغيرت النظرة الى الاحزاب في العصور الحديثة واصبح لها وضعها الرسمي المعترف به في إطار النظم السياسية للدول الديمقراطية واصبحت تتداول السلطة فيما بينها، فبعضها يتولى الحكومة وبعضها يباشر لمعارضة وتقوم احزاب المعارضة بمراقبة اعمال الحكومة، والحفاظ على روح الحرية والديمقراطية، وزادت مع التطور اهمية الاحزاب السياسية لدرجة أصبح تعدد الاحزاب في الدولة يعد من المعايير الاساسية للتمييز بين الانظمة الحرة الديمقراطية والانظمة التسلطية الاستبدادية الدكتاتورية؛ وذلك لأن الحرية ترتبط بامكانية الاختيار وحيث ينصدم الاختيار يوجد القهر والاجبار والتعسف والاضطهاد، ولا اختيار في نظام الحزب الواحد، وتتولى الحكومة السلطة الآن في الدول الديمقراطية بناء على انتخابات حرة يفوز فيها الحزب او الاحزاب الحائزة على الاغلبية البرلمانية في البرلمان وتقوم الحكومة في أثناء مدة ولايتها بتنفيذ سياستها العامة المعلقة في البرامج الانتخابية الخاصة بها والتي انتخبت بناءً عليها فصارت موكلة من الشعب بتنفيذه، غير ان التزام الحكومة بالتصرف في إطار برنامجها الانتخابي الذي يصاغ عادة في عبارات واسعة مطاطة لا يمنعها من التصرف على خلافه في حالة الضرورة وتغير الظروف بما يتفق وتحقيق مصلحة المجتمع ومع ذلك فإنّ المعارضة غالباً ما تتمسك بفكرة الوكالة الشعبية، وما ورد بالبرامج الانتخابية كأداة لمهاجمة الحكومة.
مثال لما تم تقديمه في المقدمة، عندما قامت الحكومة الرابعة في فرنسا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية اتخذت النظام البرلماني شكلاً لها؛ ولأن تلك المرحلة كانت فترة تنافر ايديولوجي مثقل بعبء البحث عن بداية جديدة أثر كارثة الغزو الالماني فإنّ تلك الجمهورية فشلت بمرور الوقت ان ترتقي لمستوى ما تتطلبه هذه البداية إَِذْ انعكس الصراع الحربي على الشارع ثم على صورة البرلمان والحكومة المنبثقة عنها التي طالما كانت حكومة صنعتها التوافقات كما التناحرات الحزبية في ظل فشل أي حزب بتحقيق اغلبية حقيقية، يرتكن عليها لوضع البلاد على مسار واضح، وكان ان استمر التيهان منتجاً الظرف الملائم لقبول زعامة فرنسية كارزمية تمثلت بشخص الجنرال الفرنسي شارل ديغول الذي بات معلماً في التاريخ الفرنسي للقرن الماضي، لاسيما انه تحمل مسؤولية مواجهة التفكك السياسي من دون مصادرة الديمقراطية أو الانقضاض عليها.
عبر ديغول انبثقت الجمهورية الخامسة شكلاً جديداً لنظام الحكم في أوربا الذي نجح بتجاوز هيمنة البرلمان المفكك وما ينتجه من حكومة هشة من دون ان يذهب الى حد خلق نظام خاضع تماماً لهيمنة الرئيس كما هو حاصل في بعض الانظمة السياسية المعروفة بالانظمة الرئاسية، ولذلك اصطلح على هذا لنظام الجديد بالنظام شبه الرئاسي او شبه البرلماني، وكلاهما أي بمعنى ادق النظام المختلط ففيه بعض خصائص النظام الرئاسي وبعض خصائص النظام البرلمان وكلاهما يعبر عن حقيقة انه نظام وسط بين الرئاسي والبرلماني إِذْ يتم انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب مما يمنحه تخويلاً ديمقراطياً يعزز من سلطته كرمز للوحدة ومالئ الفراغ الذي قد نتج عن وجود برلمان فاقد الاغلبية حاسمة “وطبعاً يختار هذا الرئيس عدد من المرشحين الذين ترشحهم الاحزاب”.
ومنذ ذلك الوقت كان النظام السياسي الفرنسي اكثر استقراراً وفعالية.