الخطاب السياسي بين مقتضيات الواقع وانعكاسات التأثير
خالدة خليل
لم تعد اللغة أداة تواصل فحسب منذ فترة مابعد الحداثة ، بل تمت صياغتها أنطولوجياً فتحولت الى مرآة للكينونة والوجود ، واندماجاً للذات بعالم الحرف ، و طوق نجاة في كثير من الأحيان . إنها تعيد ترتيب الاشياء وترممها وتبث فيها الروح من جديد ، كما أنها تصوير للواقع (رسالة ) لها وظائف لا تعد ولا تحصى . وهي التي تجمع المتفرقات في المجتمعات وتتحكم فيها حتى شبهها رولان بارت بأنها فاشية ، بسبب ممارستها سلطة قاهرة تتحكم في المشاعر وتؤثر في الاخرين .
وقد أدرك السفسطائيون في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد بأن للغة إمكانيات هائلة في القدرة على الإقناع والتمويه والمغالاة والإيقاع بالخصم وتغيير المواقف من خلال التأثير في الجمهور ، ومنذ ذلك الوقت أصبحت هناك علاقة وثيقة بين اللغة والسلطة على إعتبار أن اللغة ثروة يمكن إستثمارها في الصراع السياسي بإستخدام بلاغتها وفلسفتها للتعبير عن المواقف السياسية .
يعمل الخطاب السياسي ضمن استراتيجيات مختلفة حيث يمكن أن يساهم في تقوية السلطة بخطاب مؤثر وفي المقابل يستطيع جعلها هزيلة بخطاب ضعيف ، كون الخطاب يمتلك نفوذاً مادياً يتمثل بقوة التأثير ،
ويمكن له أن يتحول الى خطاب ديماغوجي حين يجاري المزاج الشعبي ويقوم بتحريضه ضد الحكومة .
وقد يتضمن الخطاب السياسي في الوقت ذاته مخاطراً وصراعات وتحديات شتى ، لأن سلطة اللغة قد تعبر الذات لتشكل استقلاليتها التي تخيف بها المؤسسات إذا لم يتم التعامل معها بشكل سليم .
تعبِّر اللغة في الخطاب السياسي عن آيديولوجيا معينة ، تلك التي يتبناها النظام السياسي القائم ، ويكمن الهدف غالباً في إضفاء الشرعية على الاجراءات التي تقوم بها تلك الجهة السياسية التي تتبنى ذلك الخطاب ، وتوجه لمن تمارس عليهم السلطة ( الجمهور ) فتصبح اللغة حيلة أو وسيلة يسعى من خلالها السياسي الدعوة الى معالجة مشكلات الواقع لإخفاء الجوهر السلطوي بالإعتماد على الوصف والبلاغة والإختزال بالدرجة الأساس .
يلعب كل من السلطة والجمهور دوراً في الخطاب السياسي ، الذي هو ناتج تفاعل بينهما داخل المجتمع . بعد أن تتحول كيمياء اللغة الى أهم تقنية يتسلح بها كل من يريد خوض معترك السياسة ، ولكون الفعل السياسي هو ناتج عن تلك اللغة وتأثيرها ، وذلك عندما يقوم المرسل بتوجيه رسالته الى المرسل اليه (الجمهور ) عبر قناة تواصلية يكون الهدف منها الاقناع ، مثل الانضمام الى الحزب أو التصويت في الانتخابات لصالح جهة معينة وهذا الانتاج للفعل السياسي يمكن أن ينظر اليه من الجانب البراغماتي ( النفعي ) للغة ، ويكشف عن مستوى الوعي في تحمّل المسؤولية .
وحين يتم التمكن من هذه الاداة السحرية( اللغة ) ، فأنها تصبح حجر الأساس الذي يبني عليه السياسي مستقبله لاحقاً ، وهذا يتطلب إجادة اللغة التي تعتمد في عالم اليوم على الحوار والدبلوماسية في الإقناع والإثارة لخلق الفعل ورّد الفعل !
وعلى العكس تماماً فقد يظهر ضعف السياسي حين يعرف ما ينبغي أن يقال لكن يعجز عن قوله كما ينبغي بسبب قصور أدواته اللغوية وثقافته المعرفية !
ولذلك يعد الخطاب السياسي من أكثر الأنواع نفوذاً وأشدها تأثيراً بسبب علاقته بشريحة واسعة من المجتمع أولاً و بسبب صدوره من جهة رسمية لديها نفوذ سياسي ثانياً وهذا يمنح اللغة عنصر القوة .
والتأثير في الجماهير بأساليب متنوعة بغية إقناع المتلقي لكونه من أهم مقاصد الخطاب السياسي التي تحولت الى فنٍ يدّرس عند البلاغيين منذ عهد السفسطائيين .
تعتمد السياسة على المعطيات الواقعية ، وتتكئ على الممارسات العملية والفكرية ، كما أنها تستخدم اللغة والتنظير لكي تتمكن من تطبيق إستراتيجياتها التي تضمر فيها أكثر مما تعلن عنه ، لذا كانت الدبلوماسية هي إحدى اساليبها التي تستطيع من خلالها إيصال بعض مما تريده ولكن بلغة مرنة قابلة للتأويل على أوجه عدة وبأكثر من معنى .
وبما أن التأثير في المتلقي يكون أكثر إقناعاً من خلال تعاضد الشكل والمضمون ، فإننا نجد أن عدداً من السياسيين يستخدمون في خطاباتهم الصورة الفنية ، التي تقوم في مجال النثر السياسي مقام الصورة الشعرية في النثر الأدبي كما يقول عبد السلام المسدي .
الإ أنه يجب التأكيد هنا على أن جعل الخطاب السياسي مثقلاً بالرموز والاستعارات والصور الفنية سيجعله أصعب وأكثر تعقيداً مما لو إعتمد السياسي في خطابه لغة سلسة وواضحة مع تعشيقها ببعض الظواهر الاسلوبية من إنزياح وتكرار وتناص ومفارقة ، لكي تترك أثراً أعمق في نفس المتلقي ، وتخاطب بها عقله الباطن وليس المستوى السطحي من العقل الواعي فقط ، لأن العقل الباطن قادر على الإحتفاظ بالمعلومة لوقت أطول لاسيما مع استخدام خاصية التكرار اللغوي والتحدث بثقة ومصداقية .
يشترط في الخطاب السياسي أن يكون فضاؤه السياسة إلا أن ارتباطه بالسياسة لا يعني خلوه من سلوكيات آيديولوجية وإجتماعية أيضاً ، وهو ما يجعله يرتقي الى فضاء الخطاب الذي يتميز بخاصيتي الحوار والتفاعل مع الاخرين . وقد أشار الى ذلك جومو في حديثه عن العلاقة بين المحتوى اللساني للرسالة مع القوى المرسلة وأطلق عليها ب ( النخب المهيمنة والنخب المسيّرة ) .
تتمثل مهمة الخطاب السياسي في كونها دعائية بالدرجة الاولى ، الإ أن هذه اللغة لايمكن أن تنمو وتتطور الإ تحت ظلال الحرية والديمقراطية والتعددية ، حيث يكون المجال مفتوحاً للجميع في حملاتهم الانتخابية وفي الدفاع عن توجهاتهم والإعلان عن إستراتيجيات أحزابهم مع الأخذ بنظر الإعتبار المتغيرات السياسية التي تتطلب لغة خطاب يتغير حسب المعطيات .
كما أن تعددية الأحزاب التي تحمل الاختلافات في التوجهات وصراعاتها من أجل السلطة ، تمنح للوعي يقظة ً وللفكر تجدداً وتنمية ، كون الاختلاف موجوداً ومستمراً في الطبيعة ، لكن التعبير عنه يجب أن يكون بشكل فني ولغة تدل على السمو الروحي والثقافي .