متغيّرات الواقع.. التقنيات الحديثة والقيم الإجتماعية
رياض محمد كاظم
شهدت المجتمعات المعاصرة تحولات سريعة بشكل يختلف عن كل العصور الماضية نتيجة للتقدم العلمي والتقني بكل أطيافه والذي افضى لخلق قيماً جديدة وافرز سلوكاً جديداً ينبغي التكيف معها والاستعداد دائماً لها واستشراف الغد منها لان هذا الزمان يختلف عن الازمنة السابقة التي كانت متباطئة نوع ما.. وزماننا هذا احداثه متسارعة ومتلاحقة ومذهلة في الوقت نفسه ، فقد كانت التطورات الماضية تستغرق مئات السنين اما الآن فالتطورات العلمية والتقنية وتأثيرها في عموم الحياة الاجتماعية سريعة جد ً تؤدي احياناً الى تغيير شامل في كيان وبنية المجتمع كونها لم تنبت في ارضنا ولكننا نستخدمها في جوانب كثيرة من حياتنا اليومية الأمر الذي يتطلب الاستعداد والتنبيه لها والكشف عن مخاطرها وتجنب صدمتها المستقبلية ،وبطبيعة الحال يقع الدور الكبير هنا على النخب الفكرية والثقافية والمؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدنية لمواجهة هذه المتغيرات المتسارعة ، وفي حالة عجز هذه النخب وإفراد المجتمع عن التكيف او الانسجام مع هذه التطورات العلمية فسوف يكون الثمن غالياً ، لأنه سوف يؤدي الى اصابة المجتمع بالاضطرابات والعقد النفسية والمجتمعية وستبرز جرائم القتل والسلب والنهب والاغتصاب والإمراض الجسدية وغيرها .
تؤكد البحوث والدراسات المستقبلية دوماً إن القيم الاجتماعية بما فيها (الاخلاق وسلوك الانسان ) لأتثبت طوال الزمن وإنما هي متغيرة دوماً تبعاً للظروف التي تمر بها المجتمعات ومراحل تطورها الحضاري والفكري ومن يتمسك بالقيم القديمة دون مراعاة التطور فانه سيعاني كثيراً من التصدع والتحلل القيمي الاجتماعي والأخلاقي وسيصاب بالصدمة ، لذلك فان كل مرحلة من مراحل التطور التي تمر بها البشرية جمعاء تتولد فيها قيم جديدة تختلف بعض الشيء عن القيم التي سبقتها وأصبحت تشكل جزءاً مهماً في حياة الانسان .لا يمكن الاستغناء عنها كونه تعامل وتفاعل وتعايش معها ، وخير مثال على ذلك ما شهدته المجتمعات المتقدمة والمتطورة علمياً وتقنياً ( امريكا واليابان وأوروبا ودول النمور الاسيوية ) انها مجتمعات تحولت من مرحلة الصناعة الى مرحلة عصر المعلومات والمعرفة العلمية والتقنية .
قيم اجتماعية
وأضحت تعاني كثيراً من تعارض وتصادم في القيم الاجتماعية ، فقد برزت قيم جديدة لا تنسجم في بعض الاحيان مع القيم المتوارثة لديهم سواء في الاخلاق والسلوك والعادات والتقاليد الامر الذي جعلها تعيد النظر في قيمها القديمة المتوارثة ومواجهة القيم الغير مألوفة ومحاولة تطويع الجديد منها لينسجم مع قيمها الاجتماعية السائدة .
ان عصر التقنيات او التكنولوجيا كما يحلو للبعض تسميته هو عصر ميكانيكي بامتياز اكتشف بحكم تقادم الزمن وتطور اجهزته وأضاف قيماً اجتماعية جديدة وأفكار مستحدثة لم تكن مألوفة سابقا ً تطلب الامر التكيف والتعايش معها ،ورغم هذه المعطيات إلا إننا لاحظنا في أحيان كثيرة أن الدول المتقدمة التي اشرنا إليها سابقاً ومن خلال القراءة والمشاهدة الحية لواقعهم الاجتماعي يعانون من الصدمة أو التصدع في القيم الاجتماعية والأخلاقية وهذا ما جعلهم عرضة للإمراض النفسية والجسدية حتى بدأنا نشاهد وعن طريق قنوات التواصل الاجتماعي جرائم قتل واغتصاب واختطاف ودمار لم تعرفها البشرية ، فضلاً عن تفت قيمي سلوكي اخلاقي مجتمعي لم يكن معروفاً من قبل .
كل هذه المتغيرات انعكست على واقعنا العربي ايضاً والعراق من ضمنه فقد دخلنا عصر التقنيات والمعلومات برغبة او بدون رغبة لان واقع الحال فرضها علينا وتطلب الامر التعامل معها فتم استعمال الحاسوب والشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي وعرفنا عادات وتقاليد وقيم الشعوب والدول المتقدمة صناعياً وتأثرنا بهم .
درجة التأثير
صحيح اننا لم نصنع هذه التقنيات ولكن كانت درجة تأثيرها علينا كمجتمع عربي وعراقي كبيرة جداً مثلما هي درجة تأثيرها كبيرة على المجتمعات المتقدمة ابضاً ، بالعموم فان هذا التحول ( التقني ، المعلوماتي ، المعرفي ) الذي كانت نواته خمسينيات القرن الماضي سوف يؤدي الى كوارث خطيرة مالم يتم الانتباه لها ، منها هدم القيم الاجتماعية القديمة وفسح المجال امام القيم الجديدة رغم ايجابيات القسم الكبير منها والتي اعطت للحياة المجتمعية بريقا خاصاً ، لذا فان التصادم القيمي الاجتماعي بين الماضي والحاضر يمكن السيطرة عليه وتوظيفه في صالح الفرد والمجتمع اذا قامت المؤسسات الحكومية والثقافية والتربوية والنخب الفكرية والدينية وكذلك منظمات المجتمع المدني بدورها التو عوي والإرشادي وفق تخطيط اجرائي سليم تحاول من خلاله جعل الافراد يتكيفون مع القيم الجديدة دون الخروج عن العادات والتقاليد والقيم المعروفة مجتمعياً بل هي امتداد لها .
تحولات تقنية اجتماعية متسارعة
لو تفحصنا التاريخ جيداً وتحديداً في مرحلة الزراعة او كما سماها ( الفن توفلر ) حضارة الموجة الأولى حيث اندمج الانسان مع الاسرة والقبيلة وكانت التعاليم الدينية يكتسبها بفضل ابويه ، و تبعية الفرد محددة في سياق قريته او قبيلته وهويته تبقى ثابتة لا تتغير ، وبما ان تلك الحقبة الزمنية شهدت تجمعات بشرية عملها الاساسي الزراعة ، كانوا يعيشون كما عاش اسلافهم مقلدين لهم في كل شيء ، حتى ان قيمهم المتوارثة تتصف بالرتابة خالية من التجديد والإبداع .
وجاءت الموجة الثانية وسميت بالمرحلة الصناعية والتي تغيرت فيها الحياة بمجملها ، سماتها كانت السرعة والتطور قياساً بمرحلة الزراعة ، وأصبح التنافس شديد بين المجتمعات والدول فتم تشيد المعامل والمصانع وحددت ونظمت شبكات الطرق والنقل واتسعت التبادلات التجارية وتزامن هذا كله قبل وبعد الحرب العالمية الثانية .
بعدها جاءت الموجة الثالثة والتي سميت بعصر المعلومات وهي تختلف عن عصر الصناعة التي تميزت بالاختراع والاكتشاف وانتشار المكائن والالات ، في حين كان سمات الموجة الثالثة العلم والمعرفة والمعلومة ، ووفرت هذه الموجة قاعدة علمية رصينة في كافة المجالات والميادين عنوانها الاهم ( الانترنيت ) الذي قرب البعيد وعزز التبادل الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي بين الدول ، حتى اننا عرفنا لغة الاخر وعاداته وتقاليده وقيمه الاجتماعية ورغم ايجابيات هذه الموجة ونتيجة لتسارع خطواتها العلمية والمعلوماتية إلا ان سلبياتها بدأت تبرز بفعل تدهور الظروف الاجتماعية لبعض الدول الفقيرة والمتقدمة صناعياً فزادت معدلات الجريمة وانتشرت الفوضى وارتفعت معدلات الانتحار وكثر الادمان على المخدرات والكحول حتى بدأنا نسمع عن جرائم لا يعقلها العقل .
من كل ذلك نستنتج ، ان كل موجة او مرحلة او عصر من تلك العصور ساهم في انتاج تقنيات وقيم اجتماعية تنسجم مع طبيعة كل عصر وامتدت تأثيراتها وانتشارها وفقاً للحاجة الفعلية لها ، وظهرت مشاكل اجتماعية بفعل تطور العلوم والتكنولوجيا ، وانعكست في سلوك الانسان ، ففي زمن التقنيات العلمية اصبح لا وجود لقيم مثالية مطلقة ، وإنما اصبحت القيم نسبية تدور حول ما هو انساني معقول وليس ما هو مثالي مأثور .
لذا فان للتقنيات العلمية انعكاسات كبيرة على القيم الانسانية والمجتمعية ، وان مقياس التقييم لتلك القيم بدا واضحاً عن طريق الاحصائيات التي تنشرها او تعرضها وسائل الاعلام وتبرز فيها معايير التنمية المستقبلية وتوظيفها بالشكل الصحيح لخدمة المجتمع أو بنشرها احصائيات الجريمة بكل انواعها وفنونها وهو مؤشر للتصدع والانهيار الذي تعرضت له العديد من المجتمعات .
نحن والتقنيات
يشكل التغيير التقني والعلمي إضافة نوعية للمجتمعات التي تبحث عن التقدم والتطور ، وبدأت ملامح هذا التغيير تظهر للوجود بشكل ملفت للنظر بعد عام 2003 وحاول العراقيون دخول هذا العالم الذي كان مغلقاً بعض الشيء بفعل الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية التي مر بها نتيجة الحروب والصراعات والحصار الاقتصادي الذي فرض عليه من قبل المنظمات والمؤسسات الدولية .. وغرقت الاسواق العراقية بالبضائع والسلع والأجهزة الالكترونية من حواسيب ، هواتف الموبايل ، واتسعت شبكة الانترنيت لتغطي اجزاء واسعة من العراق وانتشرت القنوات الفضائية والإعلام الرقمي حتى اصبح العالم امامنا بمثابة شاشة ومرآة نشاهد ونسمع ونقرأ ونتفاهم مع الاخر وبالعكس ، عرفنا وتعرفنا على عاداته وتقاليده وقيميه الاجتماعية ومدى مقياس تطوره ، و تركت هذه التطورات العلمية آثاراً ايجابية وسلبية معاً في مجتمعنا ، فتأثرنا بالقيم الاجتماعية الوافدة وما تقدمه الاجهزة الالكترونية من خدمات وتسهيلات بصورة براقة لجذب المشاهد والمستمع والقارئ وبالتالي الاستحواذ على عقله لتبني افكار وقيم اجتماعية غريبة جديدة بعض الشيء عنا ، فالقيم الاجتماعية تغيرت كثيراً بفعل التكنولوجيا وأنماطها فبرزت الجرائم والإمراض النفسية والجسدية وازدادت حالات الانتحار
ولغرض المحافظة على قيمنا يتطلب الامر الشروع ببناء الانسان العراقي اجتماعياً وثقافياً والانتباه الى المتغيرات العلمية المتسارعة في عالمنا اليوم حتى اصبحنا نصحو كل يوم على انجاز تقني علمي جديد له مميزاته وخصائصه يتمثل في جهاز صغير ينقلك للعالم الاخر بكل يسر وسهولة دون عناء دون ان نعي خطورته وتأثيراته المستقبلية في سلوك الافراد .
فضلاً عن ذلك علينا التنبيه ايضاً الى ان عصر تقنية المعلومات الذي امتلكه الغرب والدول المتقدمة واتي استوردنا اغلب تقنياتها وأجهزتها باتت تؤثر في سلوكنا وحياتنا اليومية ولتفادي ذلك لابد ان تكون هناك إستراتيجية جديدة يشترك فيها الكل بداً من الاسرة والمدرسة والمؤسسة والنخب الفكرية الثقافية والمجتمعية ، للتعامل مع القيم الاجتماعية الجديدة وفق منهج علمي سليم اساسه التغيير والتعديل والوعي حفاظاً على تماسكنا المجتمعي فنحن في عالم يتحرك بسرعة والتخلف عن ركابه يشكل كارثة لا يمكن تفاديها مستقبلاً .