الخيارات المتاحة بصدد سنِّ قانون الأحوال الشخصية الجديد (2)
حسن الياسري
كنَّا قد تطرقنا آنفاً إلى أنَّ ثمة خيارات يمكن سلوكها في سنِّ قانون الأحوال الشخصية الجديد.وقد ذكرنا في الحلقة الأولى أربعة خياراتٍ ،هي:1-تعُّدد القوانين 2-تعدُّد المحاكم 3-المدونة الفقهية 4- بقاء القانون الحالي مع سنِّ قانونٍ آخر للشيعة الإماميَّة –الحعفرية-. وسنكمل بقية الخيارات فيما يأتي، بيد أني أجد من الأهمية بمكانٍ التذكير ببعض الملحوظات قبل إكمال عرض هذه الخيارات :
أ-إنَّ الخيارات التي أعرضها ها هنا إنما تُمثِّل تصوراتٍ وحلولاً قانونيةً مقترحةً لكيفية سنِّ قانون الأحوال الشخصية الجديد بصرف النظر عن قناعتي الشخصية بهذا الخيار أو ذاك، وبقطع النظر عن اعتراض البعض على هذا الخيار أو ذاك ، فالمهم هو وضعها بين يدي الرأي العام والإخوة المعنيِّين في السلطة التشريعية وغيرها ؛كي تساعدهم في اختيار الأنسب منها والأوفق.
حق المكون
ب- لا ينبغي أنْ يكون التفكير منحصراً -عند اختيار الخيار- على وفق المغالبة وسياسة كسر العظام ، وعلى هذا فإنَّ دفاع البعض عن حق المكون الأكبر في اختيار القانون المناسب لا يعني هدر بقية المكونات ، فإنَّ للجميع الحق الكامل كما قرَّر الدستور؛ لذا أُنوه بضرورة أخذ هذه الحقيقة عند الاطلاع على الخيارات.
ت-إنَّ الأخذ بأي خيارٍ يستلزم بطبيعة الحال مجموعة إجراءاتٍ ليس هنا محل استقصائها بالتفصيل.
والخيارات المتبقية هي :
5- الخيار الخامس : إلغاء القانون الحالي وسن قانونٍ جديدٍ واحد :
إذا انطلقنا من الحيثيات ذاتها المذكورة في الخيار الرابع المشار إليه آنفاً –المذكور في الحلقة الأولى- فإنَّ بالإمكان عرض خيار آخر يتفق معه في الحيثيات والدوافع ويختلف معه في الآلية. ومؤدى ذلك أن نقوم بإلغاء قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 المعدل -النافذ حالياً- وسنِّ قانونٍ جديدٍ بديلٍ منه يكون معتمِداً على فقه أغلبية مواطني الشعب العراقي، وأعني به فقه أهل البيت عليهم السلام بما يتفق مع المشهور من الآراء الفقهية فيه.
إنَّ الأخذ بهذا الخيار يحقق الآتي :
أ-الاستجابة لطلب البعض الذين رفضوا وجود عدة قوانين للأحوال الشخصية مبنيَّةً على مذهبي السُنَّة والشيعة وما يُسبِّبه ذلك من شعورٍ طائفي -لديهم هم-. فنحن في هذا الخيار نكون قد استجبنا لطلبهم ووضعنا لهم قانوناً واحداً كالقانون الموجود حالياً تماماً ، وكلُّ ما في الأمر أنَّ القانون الجديد بدلاً من أن يكون خلطةً فقهيةً متعددةً أصبح يعتمد فقهاً واحداً ، وحيث إنه أخذ الطابع القانوني فهو بالمحصِّلة قانونٌ لا غير ، تماماً كالقانون الحالي الذي ينظرون إليه بوصفه قانوناً لا غير.
احوال شخصية
ب-مراعاة الذوق العام للشريحة الأكبر في العراق ، الذين كانوا وما زالوا يطالبون بسن قانونٍ للأحوال الشخصية يمثل عقيدتهم ومساواتهم في الأقل بالعراقيين المسيحيين الأرمن والسريان وغيرهم من الأقليات الذين يُنظِم القانون أحوالهم الشخصية بما يتفق مع عقيدتهم وديانتهم ومذهبهم !! فإذا كان القانون يُنصف الأقليات وهو غير قادر على إنصاف الشريحة الأكبر فكيف يمكن أن يكون مُقنِعاً !!
ت-وحدة التقنين : وأعني بذلك وحدة القانون الذي ينظم الأحوال الشخصية بدلاً من تعدُّده.
ث-سهولة الرجوع إلى القانون الواحد من قبل المحاكم، فوجود قانونٍ واحدٍ يُنظم هذه الأحوال لهو يُيسر الأمر على المحاكم في التطبيق ، بدلاً من الرجوع إلى أكثر من قانون.
ج- إنَّ وجود القانون الواحد ليس بمانعٍ في المستقبل من سنِّ قانونٍ آخر يسري على العراقيين السُنَّة فيما لو رغبوا بذلك ، لأنَّ الدستور يكفل ذلك.
ح-ليس بخافٍ على المتخصِّصين أنَّ فقه الشيعة الإمامية في الأحوال الشخصية يعدَّ الفقه الأكثر إنصافاً للمرأة والأسرة ؛ ولذا اضطرت بعض قوانين الأحوال الشخصية في البلاد العربية -وفي مقدمتها القانون المصري- إلى اللجوء إلى بعض نصوص هذا الفقه سواءً في موضوع الزواج أو في موضوع الطلاق ، مثل الحكم بعدم إيقاع صيغٍ متعددة من الطلاق تحكم المذاهب الأربعة بوقوعها ، أو الحكم بوقوع الطلاق ثلاثاً بلفظٍ واحدٍ على أنه طلقةٌ واحدةٌ بخلاف المذاهب الأربعة التي تحكم –بالإجماع- بوقوعه ثلاثاً ، أو وجوب حضور الشهود عند إيقاع الطلاق خلافاً للمذاهب الأربعة -وكذا القانون- التي لا توجب ذلك ، أو في موضوع إثبات النسب والحكم بأنَّ أقصى مدة الحمل تسعة أشهر على المشهور خلافاً للمذاهب الأربعة التي يحددها البعض بسنتين –الحنفية- أو أربع سنوات –المالكية والشافعية على المشهور- ، أو في موضوع الميراث وتقديم الأبناء والبنات على من سواهم من الورثة ..الخ. ولمن شاء فليراجع بنفسه المراجع المعتمَدة ، أو ليسأل المتخصِّصين عن ماهية مسائل الأحوال الشخصية التي تنصف الأسرة ؛ ولذا اضطر –أحياناً- بعض السُنة في العراق ولبنان إلى تغيير مذهبهم لصون حقوق الأسرة. إنَّ ما أعنيه من هذا السرد أنَّ سنَّ قانونٍ على وفق مذهب أهل البيت عليهم السلام سيكون بلا ريبٍ أكثر عدالةً وإنصافاً من القانون الحالي الذي يُمثل خلطةً من المذاهب كلها. أما سِن الزواج الذي تتخوف منه بعض النساء فسنخصِّص له حيزاً آخر من البحث،وعلى نحو الإشارة يمكن القول إنَّ بعض قوانين الأحوال الشخصية العربية التي تأخذ بمذهبٍ معين قد عالجته .
إذ فرَّقت بين السِن الشرعي والسِن الذي بموجبه يُسجَّل العقد في المحكمة .
كما أنَّ القانون الحالي يُحدد حالاتٍ يجعل فيها سِنَّ الزواج خمسة عشر عاماً وليس ثمانية عشر عاماً.وسنُفصل القول لاحقاً إنْ شاء الله في هذا الموضوع وأمثاله عند الحديث عن (العقبات وصعوبات التطبيق في طريق سنِّ قانونٍ جديدٍ للأحوال الشخصية).
6- الخيار السادس : الإبقاء على القانون الحالي مع تعديله لينسجم مع الفقهين :
بمقتضى هذا الخيار يبقى القانون الحالي بوصفه أصلاً مع تعديل نصوصهِ المخالفة للفقهين ، فالمواد المشتركة بين الفقهين -وهي ليست بالقليلة فيه- تبقى كما هي ساريةً على الجميع ، أما غيرها المخالِفة فيصار إلى إعادة صياغة النص بحيث يُكتب مرتين ، مرةً على وفق الفقه الشيعي الإمامي وأخرى على وفق الفقه السُني. وهذا الخيار يعتمده قانون الأحوال الشخصية البحريني الجديد الذي صدر في عام 2017. وهو خيارٌ عملي بلا ريب ويحقِّق وحدة التقنين ، ويُيسر على القضاء التطبيق.
آلية وضع الخيارات الستة :
في معظم الخيارات الستة المذكورة فيما سلف يمكن الاعتماد على القانون الحالي بوصفه شكلاً وقالباً قانونياً يتم وضع الأحكام الفقهية الجديدة فيه بيسرٍ ، دون المضمون ، ولا سيما إذا علمنا أنَّ هذا القانون متكاملٌ إلى حدٍ بعيد من الناحية الشكلية والصياغية والترتيب، فلا يحتاج سوى تغيير بعض أحكامه بما ينسجم مع الخيار الفقهي المعتمد والإبقاء على الأحكام الأخرى التي تتفق معه ؛ وهذا الأمر سيختزل الجهد والوقت الذي يتطلبه إعادة بناء القانون من جديد من ناحية المضمون. وأُنوِّه بأنَّ عملية صياغة تشريعٍ جديدٍ على وفق هذه الآلية ليست بالأمر العسير ، وبالإمكان إنجازه في غضون شهرين لا أكثر، شريطة أن يكون وضع مسودة المشروع الذي يمثل الفقه الشيعي من متخصِّصين لا يتجاوز عددهم الخمسة من الفنيِّين المتخصِّصين والحوزويين الذين بلغوا الفقاهة ، والعلماء الذين يُرشحهم الوقف السُني أو جهةٌ أخرى يُتفق عليها لوضع المقترح الذي يمثِّل الفقه السُني ، وبعد ذلك يُقدَّم إلى مجلس النواب ليأخذ طريق التشريع بحسب السياقات الدستورية ، والحذرَ كل الحذر من وضع المسودة ابتداءً من المجلس؛ لأنه لن يُشرَّع إذا حصل ذلك وسيولَد ميتاً بسبب الخلافات الشديدة العاصفة فضلاً عن غياب التخصُّص.