الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
خطأي،أم خطؤك؟

بواسطة azzaman

هنا طوكيو (4)

خطأي،أم خطؤك؟

منقذ داغر

 

ظاهرتان أجتماعيتان أسترعتا أنتباهي ضمن ملاحظاتي الكثيرة في زيارتي الأخيرة لليابان وثقافتها الأجتماعية والتي سأنتهي منها في مقالي اليوم. أنهما احترام الآخر،والأحساس بالمسؤولية،واللذان يتجسدان في أكثر من سلوك أجتماعي وفردي لاحظته هناك. أن الأحساس بالآخر وأحترامه يعد ركناً ركيناً في الثقافة اليابانية وهو التفسير المنطقي الرئيس لكثير من سلوكيات اليابانيين وفي مقدمتها الأعتذار،والشكر، والكياسة الأجتماعية التي أشرت لها في مقالي السابق. ومع أن الأهتمام برأي الجماعة وتقديمه على رأي الفرد ومصلحته هو أحد سمات المجتمعات الجماعية عموماً(ومنها مجتمعاتنا العربية)،الا أنه يأخذ شكلاً فلسفياً مضافاً في الثقافة اليابانية يتجسد في مفهوم WA  والذي يعني الأنسجام الأجتماعي والذي هو مقدّم على الرغبات الفردية. أن أوضح تجلي لهذا المفهوم هو في ثقافة الأعتذار في اليابان. فالفرد الياباني لا يجد أي صعوبة في الأعتراف بالخطأ،وتحمل المسؤولية وتقديم الأعتذار لأنه مبرمج على كون مصلحة الجماعة وسمعتها وكبرياءها هو من يمنحه الكرامة والفخر. أن هناك فرق شاسع بين الياباني وسواه في الأجابة على عنوان هذا المقال: هل كان خطأي أم خطؤك؟ فحينما يخطىء الفرد في الغرب-وفي مجتمعاتنا أيضاً- فأن رد الفعل المبرمج والفوري هو أنكار الخطأ ، ثم أتخاذ موقف دفاعي غالباً ما يرمي الذنب على الآخر،سواء كان ذلك الآخر صديق،أو حبيب أو عدو،أو شخص آخر، أو مؤامرة دولية أو دينية أو طائفبة. يحصل كل ذلك حتى قبل أن نفكر برهةً في أحتمال أن نكون قد أخطأنا فعلاً! ويحدث ذلك دون التفكير بمدى منطقية أعذارنا،أو بمدى أيلامها للآخر الذي نتهمه بعدم الفهم أو التآمر علينا ! بأختصار فأننا غالباً ما نتنمر قبل أن نتدبر،وننكر قبل أن نفكر،ونندفع قبل أن ننتفع. أما الياباني فأن رد الفعل الفوري والأولي له هو الأعتذار ثم التفكير الداخلي الأوتوماتيكي فيما لو كان هناك خطأ ما تم أرتكابه فعلاً. أن أحترام الآخر والثقة به تجعل الياباني يفكر في كل الأحتمالات قبل أن ينفي المسؤولية عن نفسه. كما أن تفكيره بأهمية سمعة المؤسسة التي يعمل بها والجماعة التي ينتمي لها تجعله يتقبل فكرة أن تصحيح الخطأ أهم من سمعته الذاتية. أن فكرة الذات الأجتماعية(تسمى Honne باليابانية) فكرة أصيلة للحفاظ على التناغم والوئام الأجتماعي عند الياباني. والحب عنده لا يقتصر على حب الأسرة والأصدقاء فقط بل حب المجتمع  والطبيعة ككل. لذا فالأهتمام بمشاعر الآخر وبالأنسجام الأجتماعي فكرة أصيلة في الثقافة اليابانية.

سواق التكسي

ذكرتني زيارتي الأولى هذه لليابان بزياراتي الأولى لأميركا في 2004. فقد فاجأني سواق التكسي في أمريكا بطلبهم للبقشيش أضافة لأجرة العداد وهو أمر لم أألفه من قبل. وكانوا يصرخون ويتذمرون،أذا لم أدفع 10-20 بالمئة  أضافة لأجرة العداد كبقشيش. والحق أنه في كل دول أوربا والشرق الأوسط التي زرتها توجد مثل هذه العادة على الرغم من أنهم لا يشترطون ذلك أو يفرضونه كما هو الحال في أمريكا عموماً. لذا حاولت (كما تعودت) تقديم بقشيش لسائق الأجرة الذي أوصلني من المطار في طوكيو فرفض بكياسة. كذلك كان الحال مع نادل المطعم الذي أصرّ-بشدة هذه المرة-على رفض البقشيش وكأنه يقول لي أنك تهينني ببقشيشك ،ولا تكرمني.بالنسبة للعامل الياباني فأن أتقان العمل ثقافة أصيلة لا يحتاج معها الى عوض مادي. أن واجبه،الذي يتقاضى عليه أجراً،أن يخدمك بأخلاص بغض النظر عن المقابل الذي يتوقع أن يناله منك. وأن خدمته هذه تنعكس أيجاباً على سمعة المحل والمنشأة التي يعمل بها ويجب أن يخدمها بأخلاص. من هنا تجد أن كل المطاعم اليابانية يتم دفع أجرة الطعام فيها لدى المحاسب عند مدخل المطعم وليس على طاولة الطعام. أن العمل بالنسبة للياباني هو أسلوب حياة،وتعبير عن ذات،وليس مجرد(باب رزق) كما هو سائد في كثير من بلدان العالم ومنها نحن.

أخيراً يجب التنبيه الى حقيقة مهمة سبق أن كررتها في كتاباتي السابقة،وفي برنامج الأخ الأكبر على قناة الشرقية، وهي أن الثقافة الأجتماعية ليست سلعة تشتريها من السوق،بل هي أسلوب حياة ينشأ وينمو ليلائم الظروف الجغرافية والديموغرافية والأقتصادية التي تواجه شعب ما أو مجموعة ما عبر كل تاريخه. لذلك فأن فكرة أمكانية أستيراد أنماط سلوكية ثقافية لشعبٍ ما(كاليابان) لتعمل في بيئة ثقافية مختلفة(كالعراق أو سواه) هي فكرة ساذجة علمياً. لكن المفيد في الموضوع هو التعرف على الكيفية التي أستُثمرت بها البيئة الثقافية لذلك الشعب لتطوير قدراته وأمكاناته. من جهة أخرى،فأن لكل ثقافة أجتماعية،مهما كانت،مزايا معينة كما أنها تحمل معها تبعات وكلف معينة أيضاً. لذا يجب عدم تصور الحياة في اليابان بأنها وردية وأن هذه الأنماط السلوكية التي أشدتُ بها طوال الحلقات السابقة لا يترتب عليها كلف نفسية وأجتماعية معينة. ويقيني أننا كعرب،مثلاً، سنُعجب بالحياة هناك في أول أسابيع نمضيها،لكن شهر العسل هذا سينقضي لتتكشف لنا كثير من القيود والمعايير الأجتماعية التي لا تلائم ثقافتنا. كما أننا أذا تعمقنا في طبيعة مشاعر اليابانيين تجاه نمطهم الثقافي هذا،فلربما نكتشف أنهم يعانون وينتقدون كثير من المظاهر الأجتماعية بخاصة تلك الناجمة عن صراع الماضي مع الحاضر،وأنعكاس متطلبات الحياة الأقتصادية والتكنولوجية والتحديث على شعب يمتاز بتمجيد التراث والتقاليد والتاريخ.أن الضغوط النفسية والأجتماعية الناجمة عن العصرنة  من جهة ونمط الثقافة السائدة في اليابان من جهة أخرى. فطبقاً لآخر أحصاء لحالات الأنتحار في اليابان فأن معدل الأنتحار بلغ في عام 2023 17.6 شخص لكل 100 ألف نسمة،وهو أعلى من معدلات الأنتحار في جميع البلدان الصناعية المتطورة في العالم. وطبقاً لمقياس المشاعر السلبية في العالم فقد جاء اليابانيون في المرتبة الخامسة من بين 120 دولة من حيث أكثر الشعوب شعوراً بالحزن. كما كانوا سادس أكثر شعب في العالم من حيث الشعور بالقلق. أن الثقافة الصلبة Tight Culture  للشعب الياباني تفرض قيود كبيرة على فردانية الأنسان وحريته،وهذا ما قد يسبب كثير من المشاكل النفسية للفرد.


مشاهدات 73
الكاتب منقذ داغر
أضيف 2024/08/12 - 4:00 PM
آخر تحديث 2024/08/14 - 6:27 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 401 الشهر 5973 الكلي 9981517
الوقت الآن
الأربعاء 2024/8/14 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير