الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
إن كنت لا تستحي فإفعلْ ما تشاء

بواسطة azzaman

إن كنت لا تستحي فإفعلْ ما تشاء

لويس إقليمس

 

ما شهده حفل افتتاح الأولمبياد في باريس يوم الجمعة 26 من تموز 2024، بالسخرية من لوحة العشاء الأخير ومقاربته بلوحة عهرية استعراضية أمام الملأ، يُعدّ مهزلةً أخلاقية بحقّ وتجنّ وازدراءً بحق المسيحية. لقد سقطت أمام هذا الحدث الشائن سمةُ «الدولة المدلّلة للكثلكة» في العالم المسيحي وإلى الأبد. فالسماح للجهات المنظمة لهذه الاحتفالية العالمية بالتجاوز على مقدّسات أكبر ديانة عالمية وأكثرها رواجًا وعددًا من حيث الأتباع الكاثوليك في العالم، جعل الكثيرين من عقلاء البشر يعيدون تقييمهم لهذه الدولة الأوربية المشهود لها تاريخيًا باحترام الأديان وشرعة حقوق الإنسان والدفاع عن المظلومين في العالم، بالرغم من عدادها ضمن الدول الاستعمارية تاريخيًا والمستغِلَّة للشعوب النامية، ومنها أفريقيا على وجه الخصوص. وليس غريبًا أن تًصدم دولٌ وشعوبٌ ومنظمات وكنائس ورئاسات وحكومات وأفرادٌ بسبب مثل هذا الفعل الشائن الذي استهجنته الشركة الأمريكية للاتصالات والتكنلوجيا المتعاقدة مع إدارة الأولمبياد بوقف الترويج لإعلاناتها بسبب سخرية اللوحة الاستعراضية المذكورة بطريقة لا تليق بهذه المناسبة الرياضية ولا بالبلد المضيّف ولا بفرنسا كدولة غربية يدين معظم نفوسها بالمسيحية والكاثوليكية تحديدًا. ولم يكن في حساب الفنان العالمي الإيطالي ليوناردو دافنشي أن تشوّه أيادي الشياطين لوحتَه الرمزية «التحفة» بمثل هذا الاستهزاء بواحدة من المقدسات المسيحية التي تعيد ذكراها كل كنائس العالم سنويًا احترامًا وتمجيدًا لصانعها ومضيّفها المسيح ابن مريم مساء خميس الفصح قبل صلبه من قبل القاضي الروماني بيلاطس البنطي بشكوى قاسية وحقيرة من رؤساء اليهود في أورشليم قبل أكثر من ألفي سنة خلت.

نعود لتداعيات ما وصم به حفل الافتتاح من استخدامِ شواذ ومتحولين ونساء وأطفال وسموا بالعري الفاضح ليكونوا أبطال إحدى لوحات الحفل الدولي الذي يفترض مشاهدته من قبل الملايين إن لمْ يكن المليارات من البشر على سطح الكرة الأرضية بمختلف أديانها ومذاهبها وإتنياتها وثقافاتها وتراثها. فمجرّد السماح بمثل هذه اللوحة الفاضحة يُعدّ إهانة للمقدسات المسيحية التي كما يبدو قد أفقدت فرنسا، وهي الفتاة المدللة للكنيسة الكاثوليكية، توازنها وشوّهت سمعتَها ووجّهت بوصلتها الإنسانية والعلمانية والأخلاقية نحو الهراء وفضائح العهر والاستهزاء بالمقدسات. وهو ما يرفضه العقلاء في العالم ويدينه ويستنكره أساطين الأديان ورعاتُها والرافضون لأية مشاهد أو أفعال أو أقوال تتجاوز بازدرائها للأديان. وفرنسا تُحسب من بين هذه الدول الرافضة لأية مظاهر أو فرص موغلة في شكل هذا الازدراء بالرغم من احترامها لحرية الرأي والتعبير واتخاذها العلمانية «المنقوصة» في سياسة حكوماتها المتتالية منذ سنوات. وبالتأكيد مردّ هذا الاستنكار العالمي والنقد الدولي والرفض الكنسي لما جرى في باريس مؤخرًا يُعدُّ مسمارًا أهوجَ في نعش القيم الإنسانية والحياة المسيحية «الكاثوليكية» على الأخصّ، بالتجاوز على المحرَّمات السماوية المتعارف عليها.

رمزية عدد

هناك مَن ذهبَ بعيدًا بوصفه لما جرى في حفل الافتتاح بعد مائة عامٍ على أول لقاء أولمبي جرى في فرنسا عام 1924 تحديدًا. والمقارنة قابلة التصديق من حيث الرمزية العددية للمائة عام التي وصفت بقرن «الشيطان» الذي كان حاضرًا في النسخة الثانية من الحفل العالمي بحضور ما يُسمّون بفرسان الهيكل من شياطين العصر من حيث استعراض المفاسد العصرية التي يتباهى بها هؤلاء، وهم كثرٌ هذه الأيام من الذين سيطروا على حكومات الغرب وأفسدوها وأسّسوا لثقافات عاهرة حديثة خارجة عن اخلاقيات الأديان الرسالية والسماوية التي خدمت الأرض وشعوبها منذ قرون خلت

أمّا عن ردود الأفعال الكنيسة الكاثوليكية ومراجعها ورئاساتها تجاه ما بدر عن اللجنة المنظمة لجزءٍ من حفل الافتتاح العاهر غير المقبول، فقد أعربت كنيسة فرنسا بالذات عبر رسالة اساقفتها، عن بالغ تأثيرها وحزنها لما جرى من مشاهد ازدراء وإهانة بالقيم المسيحية عمومًا وبالرموز الكاثوليكية خاصة، لاسيّما وأن تلك المشاهد قد خالفت كلّ الأعراف والقيم المتعاهدة في هذه الدولة «الكاثوليكية» تاريخيًا، بالرغم من انتهاجها خطّ العلمانية الذي لا يأبه بدين أو مذهب أو معتقدٍ في سياستها وسلطاتها وحكمها. وفي ذات الوقت الذي استهجنت فيه مراجع دينية أخرى غير مسيحية لما حصل عبر تضامنها واستنكارها الواضح لتلك المشاهد المقززة، فقد دعا أساقفة فرنسا بعد اجتماع خاصٍ تم عقده لاحقًا إلى التعاضد والتعاون من أجل خلق أجواء منفتحة ليس بمشاهد خارجة عن اللياقة والآداب العامة والأخلاق المتعارف عليها، بل بروح التضامن  والوحدة والأخوّة بين الشعوب والأمم التي يحتاجها عالم اليوم أكثر من ذي قبل. كلّ هذا في الوقت الذي أشادوا فيه بما بذلته اللجنة التحضيرية المنظمة من جهودٍ كبيرة ومتميزة من أجل جعل هذه المناسبة الدولية أكثر سعادة لفرنسا والعالم بجمع الرياضيين من جميع الأمم والقارات تحت راية الرياضة التي وحدها قادرة على جمع المختلفين والمتخاصمين والأعداء في تنافس شريف بعيدًا عن أجواء الحقد والكراهية والعداوة الوضعية بالنسبة للكثير من المشاركين. كما افترض أساقفة فرنسا أن تبقى الأرضية الرياضية خير بارقة أمل لحمل رسالة الأخوّة بين شعوب الأرض عبر المشاركة في أجمل لوحات عالمية تشهدها الملاعب والساحات ونهر «السين» على غير المعتاد في هذه النسخة المتميزة.  إنّ الثغرة التي وصمت حفل الافتتاح باستغلال جهات ناشزة أرادت فرض أيديولوجية فنّية مقصودة في هذا المحفل الدولي الرائع، لا يمكن التسامح معها. فالرياضة من الأنشطة الإنسانية التي تشترك وتجتمع فيها مجاميع رائعة من أمم وشعوب مختلفة في الدين والمذهب والإتنية والعقيدة والثقافة والتراث، ويسعد بها الرياضيون والأبطال كما المشاهدون الذين يتسمّرون على شاشات التلفاز والقنوات ومختلف وسائل التواصل انتظارًا وبحثًا عن اللقطات اللطيفة والمشاهد الممتعة المقبولة وليس بما يعكّر صفاء مثل هذه المناسبة وبالذات هذه الاحتفالية المتميّزة عن سابقاتها التي جرت بصورة استثنائية خارج الملاعب وعلى أشهر نهر وطنيّ فرنسي، هو نهر «السين». لقد أُريد لهذه الاحتفالية أن تكون في تنظيمها خيرَ حدثٍ أو نشاط يجمع رياضيي العالم ورؤساء بلدان ومشهورين ومسؤولين حكوميين تجمعهم فكرة الإخوّة الإنسانية النابعة من صميم المسيحية التي تعتبرُ فرنسا تلك الإبنة المدلّلة للكثلكة في العالم. هكذا كانت الفكرة السائدة عن هذه الدولة الأوربية. فهل فقدت فرنسا بوصلتها وتركت بصمتها المسيحية بفقدان خير خيط لأخلاقياتها وآدابها وسموّها وسط باقي الدول حليفاتها؟

هذه هي القيم الكبرى من أي نشاط أولمبي يجري حول العالم. وتبقى الوصمة السوداء تلاحق منظمي هذه الدورة، أو بعضًا منهم ممّن انسلّ خلسةً لاختراق أجواء السعادة في أولمبياد باريس 2024 من أجل فرض أو نشر أيديولوجة ساخرة وشاذة لا تليق بدولة عظمى مثل فرنسا ولا بشعبها ولا بحكومتها. كما ستبقى قيم الشك واليقين هي السائدة تجاه مثل هذه السلوكيات التي بدأت تتسلّلُ ليس إلى فرنسا فحسب، بل إلى دول غيرها حين تخلّت عن مسيحيتها وفقدت معها الكثير من أخلاقياتها ومبادئها وألقت بها في متاهات الإلحاد واللاّأدرية والتجديف على المقدسات. فالجرح عميق وبدأ يثخن في تشابيه هذه اللوحات المقزّزة وغير السارّة عوض الهدف الأسمى والرمز الرياضي العالمي الذي يؤمن بأنّ «الله يجمع البشر المتحابين في منافسة رياضة شريفة» تجمع المتخالفين والمتقاطعين في الملاعب والساحات العامة من دون قيد أو شرط. ومع كلّ ما قيل ويُقال ويُكتب في هذا الصدد، تبقى الحاجة إلى مراجعة الحكومة الفرنسية الحالية بل الدولة بأجمعها لسياساتها في استعراضٍ شفّاف وهادئ لتدارك انزلاقها الحتمي ووقوعها في الضلالة الأخيرة وفقدانها لتوازنها في أيّ شيء وكلّ شيء.

اهتزازات اخيرة

فالدولة أصبحت على المحك، لاسيّما بعد الاهتزازات الأخيرة والتقاطع الشعبي وانقسامه الواضح في آخر منافسة انتخابية غير حاسمة، ما يعني اختلال التوازن حتى في السياسة العامة والتوجيه الشعبي للمواطنين الفرنسيين الذين أضاعوا اتجاه  بوصلة حياتهم وأخلاقياتهم ومبادئهم على السواء. فهل ستكشف المستجدات القادمة غير المتوقعة ما وُصم به حفل الافتتاح بتحوّله التدريجي في الحكم على الأشياء والمواقف والسياسات أسوأ ختامٍ للإنسانية في هذا البلد وعموم أوربا؟


مشاهدات 112
الكاتب لويس إقليمس
أضيف 2024/08/03 - 12:56 AM
آخر تحديث 2024/08/22 - 6:17 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 330 الشهر 9333 الكلي 9984877
الوقت الآن
الخميس 2024/8/22 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير